هي محطة في حياتنا.. يوما ما سنهبط من قطار الحياة ونستقر بها.. ولكن إلي أن يحدث هذا فمن حقهم أن يعيشوا أحياء.. لا أن يشاركوا الراحلين مصيرهم... من حقهم أن يؤجلوا النهاية ويستمتعوا بالبداية من حقهم أن يعرفوا الفارق بين صرخة لحظة الميلاد وبين صرخة وداع الأموات, فالاثنان يملآن آذانهم طوال يومهم.. من حقهم أن يخرجوا من سكني المقابر خروجا( آمنا).. يحقق لهم الاستقرار دون تحميلهم أعباء تثقل كاهلهم.. علي مدي سنوات وتعاقب عشرات الحكومات وهم يرسلون استغاثات من قلب الجبانات لم يرق لهم أبدا قلب وزير ولا مسئول صغير أو كبير لم يرأف بحالهم أحد من رجال الأعمال أو أصحاب الملايين!! لم يضع أي من هؤلاء نفسه مكان أولئك البؤساء.. ربما لو تخيلوا أن طفلهم هو الذي يولد وسط القبور وتتفتح عيناه علي مشاهد جثث وعظام ورفات, يلعب ويلهو أعلي الشواهد ويجري حافيا في الأحواش ثم يطارد في منامه ليلا عشرات العفاريت والأشباح.. لو تأملنا جميعا حالهم أو قمتم بزيارتهم في المجاورين والغفير وباب النصروالبساتين.. لعرفتم من أين تخرج أجيال مشوهة كارهة للآخرين ولنفسها.. ومع ذلك لا نستطيع أبدا أن نلومها وكيف نلوم من عاش في بيئة هذا وصفها. السعي وراء لقمة العيش كان السبب في حالة الهدوء النسبي التي سادت معظم مناطق المقابر التي زرناها نهارا, فالرجال وأيضا النساء اللائي يسكن بمفردهن يخرجون جميعا بحثا عن أي عمل يدر جنيهات قليلة يشترون بها أي شئ ليقتاتوا به ولو كان قطعة جبن وعدة أرغفة, أرزقي هي الكلمة التي تسمعها كثيرا وأنت تتجول بين مساكن أقصد مقابر هذه الأمكنة, وهي تلخيص لحال من لا يجد عملا ثابتا فتارة يعمل شيالا وأخري يقف بمقهي وثالثة ينظف دكانا أو يغسل السيارات في أي جراج,أما النساء القادرات علي العمل فالأغلب أنهن يلجأن للخدمة في البيوت أو يبعن حزم البقدونس والشبت والجرجير, سامية سيد وشقيقتها بثينة تعيشان معا في حوش واحد مع زوجيهما, قالت إحداهما: احنا سمعنا في التليفزيون إنهم سيعطوننا مساكن, وجاء لنا شباب يملأون عنا استمارات منذ شهرين, شعرت أنني أطفأت فرحتهما عندما أخبرتهما بهويتنا الصحفية, صحيح أنها واصلت كلامها ولكن بعد أن فتر حماسها وقالت وهي ترفع غطاء حلة كبيرة موضوعة علي موقد يتصاعد منها البخار الكثيف: خلاص لازم تتغدوا معانا النهارده احنا طابخين.. وهنا اكتشفت أن بالحلة عدة قطع من عظام الكوارع تصنع بها مرقة, فعلمت كيف يحاول الفقراء أن يشعروا بالشبع وبطعم الزفارة في الطعام.. وعندما رأيت طفلة إحداهما الصغيرة تلهو وتتأرجح وهي معلقة في الهواء بين حبلين يتدليان من أعلي الشجرة العتيقة فهمت أيضا كيف يحاول البسطاء أن يكونوا سعداء. عروس المقابر رغم أن البعض يتصور أن سكان المقابر يعيشون هموم عالم واحد فإن الحقيقة أن لكل منهم همه, فهذه الحاجة أم جمال تعاني تدهور الصحة والحال, إلا أن أشد مايؤلمها أن جيرانها كلهم أموات لأنها تسكن بمفردها حوشا كبيرا مغلقا بالأسوار, ورغم أنها مسنة فإنها تحلم بأن تغادر حوشها بعد خمسين عاما قضتها بالمقابر منذ أن جاءتها عروسا برفقة زوجها تقول: أريد ولو أوضة في أي حتة عمار.. طول الليل باسمع أصوات كركبة ووقع أقدام وحاجات بتخبط علي الأبواب ابنتها تزورها لتغسل لها ملابسها بين الحين والحين, وابنها الآخر يغسل الكلي, والباقون مشغولون بأحوالهم, فإن تركت المرأة العجوز تتمتم بكلمات:( حالنا لا يختلف كثيرا عن الأموات لا أحد يزورهم بعد دفنهم واحنا كمان لا أحد يزورنا ونحن أحياء ولولا عطف أهل الخير لهلكنا من الجوع والفقر). السكن بالوراثة رغم مانراه فإن العيش في المقابر نعمة ماحدش لاقيها علي حد تعبير حسن وردة تربي بمنطقة المجاورين الذي يتعامل بالوراثة مع المهنة ومع السكن يقول: انا ساكن في حوش باشاوات ومعين تبع المحافظة وعندي عداد كهرباء حصلت عليه من ايام عبد الناصر, وبصراحة الحياة هنا هدوء وراحة بعيد عن الخلق بره ومشاكلهم ولكن بعد الثورة ناس كتير طمعت تسكن هنا وطبعا بنجبرهم يمشوا لأن السكن هنا لازم يكون بعلم أصحاب الحوش هي مش فوضي, أما أبناء وردة فقد رفضوا أن يرثوا مثله المهنة أو السكن وتزوجوا بعيدا مودعين حياة المقابرللأبد. ولكن ليست هذه هي حال كل الأبناء لأن رئيسة عبد الحميد التي نزحت من بني سويف قبل ثلاثين عامل تقول: ابني تزوج وأحضر زوجته للعيش معي ومع أشقائه الخمسة, أمال هيعيش فين هو حد لاقي سكن ولا معاه فلوس إيجار؟؟ وتنفي رئيسة ثقتها في أي وعود لأنها تسمع منذ سنوات عن شقق الحكومة تملأ استمارات وتعطي بيانات ولا يحدث شئ حتي كبر الصغار وبدأوا يتزوجون ليكملوا مع أمهم الدائرة المغلقة. الشعور بالخزي والعار!! علي مدي جولة طويلة بين قاطني المقابر حدثني البعض عن عدم الأمان وهو أمر يعاني منه جميع المصريين الآن حتي سكان الفيلل والعمارات.. وحدثني آخرون عن البلطجية الذين يأتون ليلا لسرقة الشبابيك والأبواب وأي قطع حديد في المكان, وعمن يأتون لتعاطي المخدرات واصطحاب الساقطات.. لكن حدثتني مريم أولي إعدادي عن شئ آخر عن شعورها بالعار لأنها تعيش مع جدتها لأبيها في المقابر ورغم أنها تقول أحيانا لا نجد فلوس لنأكل فإن ألمها من زميلة الدراسة التي مشت وراءها ذات يوم لتعرف حقيقة سكنها كان أشد وأقوي من ألم الجوع والحاجة لأن الفتاة الصغيرة عايرت قرينتها وسط كل تلميذات المدرسة وتتدخل الجدة العجوز في الحوار ترجونا أن نفعل شيئا لأجلهم فمريم وشقيقتها تعانيان مرارة اليتم رغم أن أمهما علي قيد الحياة لكنها هجرت زوجها وأسرتها فرارا من حياة المقابر, وتركت الزوج الأرزقي الذي يكافح لئلا تترك بناته المدرسة وتعلق قائلة: يكفينا هم السكن والفقر ولا داعي لهم الجهل أيضا. وبمجرد أن ابتعدنا أمتارا فوجئت بمن يناديني: يا طنط.. فاذا بها مريم الصغيرة التي لا يؤرقها شئ مثل شعورها بالخجل من سكنها, تطلب مني ألا ننشر لها صورا التقطناها حتي لا يفتضح أمرها أكثر, ومع موافقتي علي رغبتها إلا أنني أصررت علي إقناعها بأن فقرها وبساطة موارد أسرتها ليسا جريمة ولا عارا كما تشعر الصغيرة, تركتها وقد هدأت نفسها وإن كنت لست متأكدة أنها غيرت قناعاتها إلا أنني لا حظت فعلا رفض الكثير من الأسر التقاط أي صورة لهم حتي لو كانت لرجل كبير أو طفل صغير, وهنا أدركت الفارق بينهم وبين سكان أي منطقة عشوائية أخري زرتها فسكان المقابر وحدهم يشعرون بالخزي من أوضاعهم, ويفزعون بقوة بمجرد أن يرفع زميلي الكاميرا, لدرجة أن البعض الذين كانوا يتجمعون في ساحة الحوش حول أطباق من الجبن والفول وقطع البطيخ سارعوا بالهرب إلي الداخل, ورغم أنني تحدثت إليهم برفق وشرحت مهمتي الصحفية فإنهم اعتذروا عن أي كلام باستثناء جملة واحدة: نريد شقق لو تقدري ساعدينا. خيالات وأصوات ؟؟ الأطفال فعلا نقطة ضعف لدي آبائهم ولدي أي أحد يقرأ بقلبه مانكتبه, فهذا يحيي معهد فني صناعي يضطر للمساعدة بأعمال دفن الموتي ليقبل أصحاب الحوش بقاءه هو وأطفاله, ويقول لا شئ يوجعني مثل سؤالهم المتكرر لي: ليه يابابا مالناش بيت زي كل العيال تقابلنا مع يحيي قبل المغرب بقليل وهو عائد من عمله كهربائيا, ولكن العمل غير مضمون فربما يظل أسابيع بدون عمل, ويقول لسنا مستقرين في حوش واحد وإنما ننتقل كثيرا, حتي الاستقرار في المقابر حلم بعيد المنال, ويقول لدينا توصيلات كهرباء مسروقة وحنفية علي باب الحوش وطبعا لا يوجد حمامات وعلي الطفل أن يخرج لمكان بعيد في الحوش ليقضي حاجته. ولأنه تبدو عليه الثقافة والوعي فإنه متابع لكل شيء حتي وعود المسئولين التي بدأت تظهر مرة أخري حول خطة لسكان المناطق العشوائية متمنيا أن يكون من بينهم, وعندما بدأ يخيم ظلام الغروب علي المكان طلبنا منه أن يصف حالهم بالليل فقال: أنا لا أخاف شيئا والحمد لله أحفظ أجزاء من القرآن الكريم, ولكنني طبعا أري خيالات تروح وتغدو في المكان,ونسمع أصواتا تئن وتتحرك أمامنا أشياء ولكننا تعودنا عليها وفي النهاية لا يؤذينا شيء. أنهيت جولتنا بعد أن لاحظنا أن أجواء غريبة بدأت تسيطر علي المكان وعلي الطرق الضيقة المؤدية للمقابر إذ تراصت نساء ورجال يمسكون بالشيشة ويبدو من طريقة كلامهم أنهم يديرون تجارة ما بالمكان, وبدأت تطاردنا الأسئلة ويكشر الواقفون عن أسنانهم, فعلمنا أننا نري الجانب الآخر لحياة المقابر الذي لا يظهر إلا بعد أن يختفي آخر شعاع للنور. طلاق ومخدرات صفات وخصائص مجتمع المقابر كانت مادة ثرية لعمل الباحثين, ووفقا لدراسة ميدانية للدكتور ممدوح أبو الحمد مشرف التدريب الميداني بقسم الخدمة الاجتماعية بجامعة الأزهر فإن هذا المجتمع يعيش تحت مستوي خط الفقر إذ لا يتجاوز دخل الفرد منهم عشرة جنيهات في اليوم وأغلب الأسر ليس لها سوي عائل واحد,وبعض الأسر غاب عائلها لكونه محبوسا علي ذمة أكثر من قضية, كما أن أفراده يعتادون علي مشاهد الجريمة سواء القتل أو الدعارة أو الاغتصاب والسرقات وتجارة المخدرات, ويتفشي بينهم التفكك الأسري وكثرة حالات الطلاق وهروب الأطفال والفتيات, بالإضافة إلي ذلك فهم يفتقدون الخدمات الصحية والتعليمية,ومعظمهم لا يحملون بطاقات إثبات شخصية ومن يحملها لا يستطيع إثبات عنوانه الحقيقي لأنه غير معترف به حكوميا, ورغم وجود المساجد فإن الوعي الديني يكاد يكون منعدما, وهناك حرص شديد علي وجود الريسيفر ومشاهدة القنوات الإباحية. الحقيقة أنني انشغلت كثيرا بحال أطفال يولدون ويتربون في هذا المكان كيف تكون تركيبتهم النفسية, وهل سيكونون بالضرورة أجيالا غير سوية؟ جاءت كلمات الدكتور لطفي الشربيني استشاري الطب النفسي وعضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي غير مبشرة لأنهم أطفال ينشئون في مكان غير مخصص إطلاقا للحياة لأنه مكان أعد للأموات, فكيف تتشكل لديهم رؤية سليمة وهم يعيشون الموت قبل الحياة, يرون مشاهد الدفن المتكررة والملابس المتشحة بالسواد, لا يوجد لديهم أماكن للهو واللعب ولا أجواء للأمن والطمأنينة ليس فقط من اللصوص ولكن من الرعب والخيالات, خاصة أن مرحلة الطفولة يكون فيها خيال الطفل شديد الخصوبة والتأثر بما يدور حوله من حكايات عن الموتي وعالم الأشباح. والتأثير سيظهر بوضوح في فترات المراهقة والشباب, فالطبيعي أن يكون هؤلاء أجيالا مشوهة لديهم سلوكيات غير سوية, يشعرون بالكراهية لمجتمع سمح باستمرار هذه الأوضاع, ولا يشعرون بالانتماء للوطن ولا للأسرة لأنهم لم يعرفوا معني السكن في بيت مغلق بالأبواب فتظهر الشخصية المضادة للمجتمع, وهي شخصية.. يصاحبها انحرافات سلوكية, ويحذرنا د. لطفي من أن هذه البيئات هي المكان الأمثل لتفريغ أجيال من المجرمين والخارجين علي القانون.