أثار مسعي مجلس الشوري لمناقشة قانون السلطة القضائية احتجاج قطاع من القضاة, ومن ورائهم قطاع من السياسيين والمثقفين, رغم شبه غياب الأزمة برمتها عن الشارع, الذي عاد الاقتصاد ليشغل اهتمامه علي حساب السياسة التي ما زالت تستغرق اهتمام النخبة. ويكمن الخلاف بين أطراف الأزمة بالأساس حول مقترح خفض سن التقاعد للقضاة من السبعين إلي الستين, والذي حرك موجة غضب بين شيوخ القضاة رغم مراوحة شباب القضاة بين مؤيد ومعارض. ومع كامل التفهم لمعارضة معظم شيوخ القضاة لهذا المقترح الذي سيفضي حال تمريره إلي إحالة عدد كبير من القضاة إلي التقاعد, ينبغي تطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين في سن التقاعد رفعا أو خفضا, وإتاحة المجال لترقي أجيال شابة من القضاة وضخ دماء جديدة في قاعدة الهرم القضائي من أوائل كليات الحقوق ووفقا لامتحانات تحريرية وشفهية, بما يثمر منظومة قضائية أكثر إلماما بروح العصر وتجلياتها بالنسبة للقوانين والأدلة وإجراءات التقاضي وغيرها. كما ينبغي التدرج في تغيير سن التقاعد وعدم إهدار الخبرات القضائية التي تشكلت علي مدي عقود من الجلوس إلي منصة القضاء, وحيث إن الأزمة تبدو نخبوية بامتياز, فهي تثير جدلا فكريا علي أكثر من مستوي, بما يتجاوز تفاصيلها الآنية. فعلي المستوي الدستوري, تثير الأزمة مسألة التطبيق السليم لمبدأ الرقابة والتوازن بين السلطات الثلاث للدولة, وهو ما ينبغي أن يسبقه اقتناع كل منها بأهلية الأخرين, وهذا الاقتناع قد يتعرض للاهتزاز عقب الثورات. فالقاضي بتكوينه القانوني غالبا ما يرفض الثورة ويراها وضعا مؤقتا غير قانوني, وينبغي ألا يمتد تأثيره إلي مؤسسات الدولة, فضلا عن تقيده بما يحكمه من قوانين وما بين يديه من أدلة, الأمر الذي انتهي إلي أحكام البراءة لأركان النظام السابق ونظر دعاوي قضائية بحق رموز النظام القائم, مثل قضية فتح السجون إبان ثورة يناير. وإذا أمكن قبول هذا المنطق قانونيا, فإنه سياسيا لا يلقي قبول تيار الأغلبية بالمجلس التشريعي ومن قبله قطاعات عريضة من الثوار; إذ أن الثورة في الأصل عمل غير قانوني, ولا تكتسب شرعيتها إلا بتأييد نسبة كبيرة من المواطنين وعدم مقاومة أغلبية المواطنين لها, وهو ما حدث في ثورة يناير. وبناء علي ذلك, توجد الثورة واقعا شرعيا, حتي وإن خالف القانون, ومن ثم فخلع رئيس الدولة خارج الإطار الدستوري وتحرير المعتقلين السياسيين ينبغي ألا يعد جريمة تستوجب العقوبة وإعادة الوضع كما كان عليه قبل الثورة. ولكي يكتمل تحول الثورة إلي الدولة, فلابد من سن القوانين التي تسبغ الشرعية علي تصرفات الثورة وتصحح الأوضاع التي ثار الشعب ضدها. وعلي المستوي البنيوي, تجسد أزمة القضاء الراهنة الجدل التاريخي في المجتمعات الديمقراطية بين البيروقراطية( والسلطة القضائية من أبرز أعمدتها) والنظام الحاكم( ممثلا بالسلطتين التنفيذية والتشريعية), ولكل مواطن ضعف وقوة, فالبيروقراطية تمثل الكيان المؤسسي المحايد للدولة والذي ينبغي ألا يتغير كليا بتغير النظام, ولكنها في ذات الوقت قد لا تعبر عن تطلعات الجماهير; باعتبارها منظومة معينة غير منتخبة. علي النقيض, فالنظام الحاكم باعتباره منتخبا يمثل إرادة الشعب, ولكنه لا يتسم بالضرورة بالحياد والاستقرار بحكم تداول السلطة. وتحتل السلطة التشريعية مكانة متقدمة علي السلطتين الأخريين, باعتبارها مؤسسة منتخبة وبالتالي تجمع إلي حد كبير مزايا البيروقراطية والنظام وتتفادي عيوبهما; إذ أن تغير المزاج الانتخابي لا يؤدي غالبا إلي تغير دراماتيكي في تكوين السلطة التشريعية, وإنما تغير تدريجي في نسب التيارات السياسية الممثلة فيها, ومن ثم يتسم البرلمان باستقرار نسبي مقارنة بالحكومة. ويستدعي ذلك الجدل البنيوي جدلا آخر علي المستوي العملي حول ملاءمة أي المدخلين للتعاطي مع الشأن العام في مصر بعد الثورة: المدخل القانوني بتطبيقه للنصوص المجردة أم المدخل السياسي بتقديمه للمصلحة العامة. وقد تجلي التضارب بين المدخلين إبان حل مجلس الشعب العام الماضي بحكم قضائي بعدم دستورية بعض مواد القانون الذي أجريت الانتخابات علي أساسه, بينما كانت المصلحة العامة تقتضي الحفاظ علي المؤسسة الدستورية المنتخبة التي كلف انتخابها الشعب جهودا وأموالا طائلة. ويعود الجدل بين المدخلين إلي الواجهة في أزمة القضاء الراهنة; إذ بينما يعتبر مجلس الشوري قانونيا أهلا لتشريع قانون للسلطة القضائية باعتباره مخولا بسلطة التشريع وفقا للدستور إلي حين التئام مجلس النواب فثمة مشروعات قوانين أخري قد تكون ذات أولوية من الناحية السياسية. ورغم ذلك, فقد تم تأسيس سوابق لتغليب المدخل القانوني واحترام أحكام القضاء, كان أبرزها حل السلطة القضائية للسلطة التشريعية العام الماضي وكان لزاما في المقابل تطبيق السلطة القضائية للقوانين التي تسنها السلطة التشريعية وفقا لمبدأ الرقابة والتوازن بين السلطات, وإلا أهدرت إرادة الشعب ممثلا بمؤسساته المنتخبة, وأصبحت سلطة معينة غير منتخبة هي من تحكم البلاد. بيد أن صالح الوطن يقتضي فتح قنوات للحوار الهادئ الصريح بين السلطات الثلاث بعيدا عن المبارزات الإعلامية; بغية تشريع قانون للسلطة القضائية, يواكب أحدث التطورات في مجال تحقيق العدالة. لمزيد من مقالات محمد بيلي العليمي