لك الله يا مصر.. علي مدي أكثر من نصف قرن عانيت, بدرجات متفاوتة, من قسوة الحكم وسطوة الحكام, وذاق أبناؤك ألوانا من القهر ومرارة الحياة. قبضوا عليك إرثا وتداولوك إقطاعا تارة باسم الثورة علي ظلم الحاكم واستبداد الإقطاع وفساد النظام; وتارة باسم الديمقراطية وتحرير الاقتصاد وتحقيق العدل الاجتماعي, ثم تارة ثالثة باسم الاستقرار والتغيير وتفعيل سيادة الشعب ودولة القانون. وفي الخامس والعشرين من يناير2011, اكتشف المصريون الأكذوبة الكبري, التي ضللتهم والأوهام التي شوهت إرادتهم في مراحل الأنظمة الثلاثة التي سرقت الزمن واغتالت الأمة وتفجرت تراكمات الغضب لدي المصريين ففجروا ما ظنوها ثورة تجسد أحلامهم في التغيير وطموحاتهم في العدالة والحرية والديمقراطية, وتنهي الأكذوبة وتقضي علي الأوهام. وأسقطوا آخر معاقل الدولة العسكرية ومعه سقطت الجمهورية الأولي لتبدأ الثانية في الحادي عشر من فبراير.2011 وتشرذم المصريون وتقاتلوا وتاهت الأهداف العظام, ليكتشف المصريون مرة أخري إعادة للأكذوبة وتفريخا للأوهام, لكن في ثوب جديد. علي مدي أكثر من عامين, غاص المصريون في مشهد تراجع فيه الأمن وعمت الفوضي وضعفت قبضة الدولة وذهبت هيبتها, وزلزلت سيادتها وشلت مؤسساتها وتعطل الإنتاج وتدنت الخدمات وتهاوي الاقتصاد وعز العيش, وإنطلقنا من إسقاط النظام إلي الاقتراب من إسقاط الدولة, الأمر الذي أحال الحدث كله إلي مجرد انقلاب أزاح نظاما وأتي بصورة مستنسخة منه تلتحف عباءة وظفت الدين توظيفا خاطئا سياسيا وأنحرفت به إلي غير مقاصده. إن المسئولية عن المشهد المصري اليوم تقع بكاملها علي رؤوس من وصلوا إلي سدة الحكم والنخبة المعارضة سواء بسواء. فالذين جاءوا إلي السلطة قفزا عليها دون ما استعداد لها أو خبرة بها أو دراية بمعطياتها أو إحاطة بأدواتها ووسائلها, أو رشدا في استخداماتها أو إيمانا بمبادئ الحكم الرشيد الذي يرد السلطة للشعب والسيادة للدستور والقانون, ويجعل العدل الاجتماعي والحرية والديمقراطية أسسا مركزية للشرعية, ورضا المحكومين شرطا تأصيليا مسوغا للولاء لها والدفاع عنها واستمرارها. لقد أعادوا تشكيل وصناعة مؤسسات الدولة لأنفسهم وأحاكوا دستورها وقوانينها الحاكمة لخدمة أهدافهم وتحقيق مصالحهم الانقلاب علي الثوابت وإعادة صياغة هوية الدولة وتوجيه مساراتها وتأبيد الحكم أو توريثه لجماعة بعينها. ومن الغريب حقا تأصيل مشروعية الحكم في مصر علي النتائج التي تأتي بها صناديق الاقتراع, ونحن نعلم جيدا أن هذا النموذج يستلزم شرطا جوهريا مفاده توافر الإرادة الحرة القادرة علي الاختيار والمدركة لأبعاده والمستعصية علي المؤثرات مهما كان نوعها, والتي بدونها تؤسس تلكم الصناديق لصورة مشوهة للشرعية يصيبها عوار الأمية الذي تصل نسبته إلي أكثر من40% من السكان, وعوز الفقر الذي يلتحق به70% من المصريين, وكلها أمراض تصيب الإرادة وتقعدها عن التعبير الحر أو تفقدها الإدراك والتوازن عند المقارنة والتفضيل.. فتلك شماعة لا علاقة لها بتخليق ديمقراطية النظام أو إضفاء شرعية علي الحكم في المجتمعات النامية التي تعاني من تلكم الأمراض الملوثة للإرادة والمفسدة للاختيار, خصوصا بقدر تعلق الأمر باستخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية, كما هو شأن الحالة المصرية. وفيما يتعلق بالنخب المعارضة, فإن مسئوليتها عن حالة التردي لا تقل عن تلك التي تلحق بالنظام الحاكم من حيث تمزقها وتقاتلها وصراعاتها المتمركزة حول المصالح الشخصية في معظمها وإنشغالها بذلك عن استهداف بناء قواعد مؤثرة لها بين الجماهير, فضلا عن فشل كل منهما في صياغة رؤية شاملة ومتكاملة لمصر تعززها أهداف كلية واستراتيجية وسياسات وخطط وبرامج مرحلية تتكامل فيما بينها في تتابع منهجي وزمني بحيث تبدأ كل منها من حيث انتهت سابقتها وتبني عليها. فبعد أكثر من عامين لم يطرح أي من الطرفين رؤياه, واكتفي النظام بالحديث عن شيء هلامي غير معروف وغير محدد, من حيث عناصره وإمكانياته وطرائق تنفيذية والموارد والفترات الزمنية لمراحله, أطلق عليه مشروع النهضة. بالله عليكم أفيدونا عنه أفادكم الله, أم أن هذا سر من أسرار الحكم والجماعة؟ أم أنكم تخشون مواجهة الشعب به والاحتكام إليه بالحوار حوله؟ إذا لم يكن لدي النظام رؤية علمية بمشروع حقيقي قابل للتنفيذ فتلك مصيبة تكفي لنزع الشرعية, وإذا كان المشروع سريا يراد تحصينه وإبعاده عن المشاركة واعتباره شأنا خاصا يحقق رؤية وأهدافا لدي أصحابه, تكون المصيبة أعظم! مرة أخري, أفيدونا, وإلا فإنكم لا تقرأون وإن قرأتم لا تفهمون وإن فهمتهم لا تعقلون وإذا عقلتم لا تعدلون وإن عدلتم فأنتم تميزون. والمحصلة غياب الحكم الرشيد, ومن ثم تآكل الشرعية الذي يؤدي بالضرورة إلي فقدانها. كما أن النظام مشغول بسفريات رموزه عن التصدي للتحديات التي تواجهها الأمة والدولة المصرية معا, فإن المعارضة منشغلة أيضا بالبيانات عن الوصول إلي القواعد الشعبية, وغابت بين الفريقين مصالح الوطن وتاهت حقوق المواطنين واستهين بسيادة الدستور والقانون ونيل من استقلال وهيبة القضاء وتآكلت مؤسسات الدولة وتدنت هيبتها وبات كيانها مهددا داخليا وخارجيا.. فبأي صوت تتحدث رموز السلطة في سفرياتها ؟ عن مصر التي كانت أم عن الكيان المتردي والاقتصاد الذي أوشك علي الانهيار؟ بأي صوت تتحدث هل بصوت مصر القيمة والقامة التي كانت تذهب الدول والخلائق حيث تذهب؟ أم بصوت متحشرج مجروح مهزوم؟ وهل لهذا الصوت الأخير من آذان تستمع إليه وتتأثر به ؟ أم أنها مقتضيات التغيير ونحن نعلم أننا كمن يؤذن في مالطة؟! اليوم, فاض الكيل ونريد حلا.. السلطة والمعارضة مطالبون بموقف يتناسب مع اللحظة ويتوافق مع مقتضيات المشهد ويستلهم منه رؤياه وأهدافه وسياساته وخططه وبرامجه.. موقف الإنقاذ علنا نلتقي حول نقاط الخلاف وننهض من جديد ونعيد للمصريين أحلامهم التي توارت وآمالهم التي خبت وثقتهم التي تدنت ووحدتهم التي تمزقت وحقوقهم بعد استهانة واقتصادهم بعد ضعف وتأزم; نسترد للدولة المصرية أمنها الذي تراجع بين غائب أو مهدد, وهيبتها التي شرخت وسيادتها علي أرضها في سيناء, وتسترجع مصر قدراتها علي المبادرة والريادة. تلك مطالب تمثل صرخة أمة يقف لها وأمامها التاريخ إجلالا, وجب علينا أن نعيدها إلي استحقاقها الأكبر بين الأمم. والبديل يستوجب حدثا إنقاذيا بات ضروريا لتجنب كارثة محققة.. لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى