كتبت يوما في أواخر عام2005 تحت عنوان حرب الصور, معلقا علي ما شاب الانتخابات آنذاك من عنف مشيرا إلي أننا شاهدنا فيما شاهدنا صورا شديدة الوضوح لشبان يقفون في مواجهة الكاميرات يشهرون أسلحتهم البيضاء مولين ظهورهم لقوات الأمن المركزي. وكيف أننا انتظرنا أن تظهر في اليوم التالي صور هؤلاء يساقون و في أيديهم القيود الحديدية إلي جهات التحقيق و المحاكمة, و أن غياب ظهور تلك الصورة المتوقعة لم يكن سوي رسالة تقول لمن يديرون عصابات العنف استمروا لا تخشون شيئا اطمئنوا. ها هو زميل لكم, احتلت صورته واضحة المعالم الصفحات الأولي من الصحف و نشرات الأخبار, و هو ما زال بخير في أمان. إن الصورة المرئية تعد من أكثر وسائل الإعلام مصداقية عند جمهور المشاهدين; و برغم إمكانية تزييف الصورة, فمازال البشر أقرب للاقتناع بأنه ليس من رأي كمن سمع. و لم يعد في وسع أطراف أي صراع سياسي سواء كان داخليا أو إقليميا أو دوليا استبعاد سلاح الصورة من حساباتهم في إدارة الصراع, بل لعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا ما تصورنا أن القتال بسلاح الصورة يقترب من بقية أنماط القتال المسلح, بحيث تصبح الصورة مقابل الصورة كما أن الطلقة تواجه الطلقة. وأشرت في ذلك المقال القديم إلي صورة رئيس شرطة سايجون يطلق رصاصة مسدسه علي رأس ضابط أسير من قوات الفييت كونج الشيوعية الشمالية خلال حرب فيتنام; و إلي صورة كومة من جثث ضحايا تلك المجزرة التي قام بها الجنود الأمريكيون في قرية ماي لاي عام1968 و إلي صور التعذيب في معتقل أبو غريب. وقد تابعت و الألم يكاد يمزقني تلك الصورة التي نشرت علي مواقع الإنترنت و علي صفحات الجرائد المحلية و العالمية لفتاة مصرية يتم سحلها عارية علي أيدي من يرتدون لباس الجيش المصري. قاومت تصديق الصورة, و تعلقت بأمل أنها قد تكون مزيفة, فالمعتدي عليها امرأة, و الأديان و المواثيق جميعا تغلظ تجريم مثل ذلك الانتهاك, فضلا عن أن البعض يأخذ علينا تشددنا فيما يتعلق بتعرية أجساد النساء. و لم تلبث مقاومتي أن انهارت حين جاء الخبر اليقين إذ أقر السيد اللواء عادل عمارة عضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة في خطابه يوم19 ديسمبر بصحة الواقعة و أنها محل تحقيق سيتم الإعلان عن نتائجه مضيفا أنه آسف كمواطن وأب لحدوثها. ثم لم يشأ سيادته أن يترك الأمر للتحقيق بل بادر بدعوتنا قبل الحديث عما حدث للفتاة, أن نسأل أنفسنا عن الظروف التي وقعت فيها الحادثة. و لعلنا لا نبالغ إذا استنتجنا أن سيادة اللواء يلتمس علي الأقل ظروفا مخففة لإدانة مرتكبي الجريمة, و تصورت آنذاك أولئك المجرمين و هم يشاهدون حديث سيادته فتطمئن قلوبهم, فقد أقدموا علي جريمتهم نتيجة الظروف المحيطة بهم وقت ارتكابها, و مادام الأمر كذلك فلاغضاضة إن استمروا في تكرار فعلتهم المشينة كلما واجهتهم تلك الضغوط. إن أحدا لا يشكك في صعوبة الموقف الذي يتعرض له جنود من القوات المسلحة يتلقون الإهانة لأشخاصهم و لقياداتهم. إن أحدا لم يزعم أن هؤلاء الجنود قد انقضوا علي فتاة تسير آمنة في الطريق, بل كانت هذه الفتاة و غيرها من الفتيات و الشبان يتظاهرون و يهتفون بل وحتي يوجهوا السباب. و لقد تساءل السيد اللواء عن كيفية مواجهة مثل هؤلاء المحتجين؟ إن تجاوزات المحتجين تعرفها دول العالم جميعا و لكن نادرة تلك الدول التي تدفع بجنود جيشها إلي مواجهة المحتجين بالقتل و انتهاك حرمات النساء. و ما تركيزنا علي مشهد هذه الفتاة بالذات سوي لأنه المشهد الذي تحول إلي صورة المرحلة وفقا لما تداولته أجهزة الإعلام المحلية و العالمية. و تدافعت إلي ذاكرتي صور متتالية لجنود و ضباط جيشنا المصري في لحظات الهزيمة و الانكسار ولحظات التقدم و الانتصار. وقفزت صورة عفا عليها الزمن للضباط المصريين الأسري وقد ألقي بهم جيش الاحتلال علي بطونهم و أوكل حراستهم لمجندات من جيش الدفاع الإسرائيلي, و ظلت هذه الصورة جاثمة علي صدري إلي أن محتها صور حرب أكتوبر و جنودنا يرفعون العلم علي خط بارليف, إلي جانب صور صفوف الأسري من الجيش الإسرائيلي يقتادهم رجال قواتنا المسلحة و لا يلقون منهم سوي حسن المعاملة. و ظللنا نحاول التمسك بتلك الصورة بعد ثورة يناير برغم التجاوزات و الشهداء, تقديرا للموقف الذي اتخذه المجلس الأعلي للقوات المسلحة من الثوار آنذاك, و هو موقف طبيعي جدير بالاحترام برغم حقيقة أن الدول التي دفعت بجيشها للاصطدام بالثورة قد تعرض جيشها لانشقاقات مهدت لتدخل أجنبي أطاح أول ما أطاح بكرامة ذلك الجيش, و بصرف النظر عن حقيقة أنه لم تصدر تعليمات من القائد الأعلي آنذاك بإطلاق النار علي المتظاهرين. وواجهنا ذلك الامتحان الصعب. تري كيف تم تلقين جنودنا أنهم إذا ما واجهوا إهانة أو تطاولا فعليهم الرد فورا و بكل القسوة؟ من أنساهم كيف أنه كان عليهم خلال سنوات حرب الاستنزاف و هم يسمعون و يرون تطاولات و سباب جنود العدو من علي خط بارليف أن يكظموا غيظهم متجنبين رد الفعل الشخصي؟ كيف لقنوا نسيان ما تتضمنه قوانين الشرف العسكري فضلا عن قوانين السماء من احترام الحرمات؟ تري هل سيستمر الاندفاع إلي تلك الهاوية المدمرة؟ [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني