تري هل عدنا إلي نقطة الصفر لنبدأ من جديد؟ إن التاريخ لا يعرف التكرار, ولكن أحدا لا يستطيع أن يمنع نفسه وهو يتابع ما يجري منذ السبت19 نوفمبر الحالي من أوجه تشابه بينه وبين ما شهدته بلادنا أيام ثورة25 يناير. وجوه الشباب الذين تعرفنا علي ملامحهم بل وبعض اسمائهم يتصدرون المشهد, قوات الأمن المركزي بهراواتهم في الميادين الرئيسية في طنطا والسويس وبورسعيد والإسكندرية وأسيوط يساندون إخوتهم في ميدان التحرير, لجان من الشباب تحاول التأكد من هويات الوافدين إليه. الأنباء تتوالي عن تزايد أعداد الشهداء والجرحي, وأن إصابات العديد من الجرحي كانت في العيون تحديدا. وعلي المستوي الإعلامي نسمع من جديد من يرددون أن أولئك المحتجين لا يعبرون عن إرادة ملايين المصريين, وأنهم يفتقدون قيادة موحدة, بل إن من وجودوا بميدان التحرير بلطجية لا ينتمون للثوار أو أسرهم بصلة, وإن جنود الشرطة الذين شاركوا في فض اعتصام التحرير كانوا بلا أي سلاح وأن هدفهم كان طرد البلطجية والباعة الجائلين الموجودين بالميدان, وأن قنابل الغاز المسيل للدموع مصرح بها في كل أنحاء العالم وأن الداخلية تتعامل بأقصي درجات ضبط النفس, وأنها لا تستخدم العنف مع المتظاهرين, وأن أولئك المتظاهرين يتسببون في انهيار الدولة التي توشك علي الإفلاس بسببهم, وأنهم يتحركون وفق أجندات أجنبية ويتلقون الدعم المالي والتدريبي من الخارج. ولعل أبرز أوجه التشابه بين ما جري في25 يناير وما يجري الآن هو أنه رغم إعلان المسئولين في وزارة الصحة أن غالبية الشهداء قد قتلوا بإطلاق الرصاص فإن المسئولين يصرون أن أحدا من رجال الشرطة لم يطلق رصاصة واحدة علي المتظاهرين, دون أن يقدم أي من أولئك المسئولين متهما واحدا متلبسا بالصوت والصورة بأنه من أولئك المندسين الذين قتلوا المتظاهرين, أو علي الأقل التصريح دون تلميح باسماء وانتماءات من يوجه إليه الاتهام. لقد شهدت بلادنا منذ تكليف الرئيس السابق محمد حسني للمجلس الأعلي للقوات المسلحة, إثر ثورة يناير أمرا لم يشهده تاريخها قط, ولعله أمر لم تعرفه غيرنا من الأمم قط, فلقد عرف تاريخ الأمم جميعا أنواعا وألوانا شتي من الثورات والانقلابات العسكرية, وشهدت دول عديدة انهيارا لأجهزة أمنها أو لقواتها المسلحة, ولكن الأمر الفريد الذي اختارته السلطة التي تولت شئون بلادنا بعد ثورة يناير يتلخص في وقوفها عند حدود في التهمة عن نفسها, دون تحمل مسئوليتها الأساسية وهي مسئولية أي سلطة عرفتها المجتمعات البشرية, وهي ضرورة تقديم المتهم للعدالة, فإذا ما حالت الإمكانات المادية دون ذلك فلا أقل من كشف هويته أمام الشعب والمجتمع الدولي ورغم حقيقة أن بعض الملفات ظلت مفتوحة خلال العهد السابق مثل اختفاء الصحفي رضا هلال والمعارض الليبي والقيادي بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان منصور الكخيا, كانت السلطة وأجهزتها تدرك تلك الحقيقة البسيطة: انها المسئولة عن كل ما يجري علي أرض الوطن, وأنها لا يكفي أن تنفي عن نفسها التهمة بل عليها أن تقدم المتهم إلي العدالة. صحيح أن إدراك الحقيقة لا يعني بالضرورة احترامها والالتزام بأصولها, ولكن ذلك الإدراك يكلف صاحبه علي الأقل بذل الجهد للالتفاف علي تلك الحقيقة لكي يبدو في مظهر من يؤدي وظيفته بكفاءة. لقد كان من المألوف في عهد مبارك حين تحدث جريمة مما يطلق عليها جريمة رأي عام, وتشير الأيدي إلي بعض رجال الشرطة أو الشخصيات النافذة سياسيا, كانت أجهزة الأمن لا تكتفي بنفي مسئوليتها عن الجريمة, بل كانت تبادر بتقديم متهم, وفي كثير من الأحيان كانت الأيام تثبت أن ذلك المتهم ليس المجرم الحقيقي وأن الحكومة قد بادرت بإلصاق التهمة بشخص برئ لإغلاق الملف والظهور بمظهر من أدي واجبه. لقد وقعت ثورة يناير وسقط من سقط من ضحايا من الثوار أو رجال الشرطة أو حتي الفارين من السجون, حدث كل ذلك تحت أضواء الكاميرات وأجهزة الإعلام أي أن الحدث مسجل بالصوت والصورة, ورغم ضخامة الحدث فقد اكتفت السلطات آنذاك بنفي التهمة عن رجالها: لا أحد من رجال الشرطة أو رجال القوات المسلحة مارس قتلا أو ارتكب جريمة. لقد توقعنا مع ثورة يناير كشف مغاليق تلك الملفات وأن نعرف مثلا كيف اختفي رضا هلال ومنصور الكخيا, ولكن بدلا من ذلك ظلت تلك الملفات علي غموضها, ليس ذلك فحسب بل شهدنا أمرا عجبا: لقد أصبحت السلطة بكل أجهزتها تتصرف كما يتصرف المواطن حين توجه إليه تهمة ما فيكون غاية ماهو مطلوب منه أن يثبت براءته من التهمة. وها نحن نشهد ما سبق أن شاهدناه: لقد عادت الدماء لتنزف من جديد, وعادت نفس التبريرات القديمة تتكرر, فبدا كما لو أن التاريخ يكاد يعيد نفسه, ولكن أبدا لا يمكن تكرار التاريخ بنفس تفاصيله, فالعالم متجدد دوما, وخبرات الجماهير تتراكم, ورغم أن القدر مازال يغلي, فسوف نشهد جديدا لعله يكون أفضل. [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني