غرقت مصر خلال أكثر من نصف قرن في سلسلة من الخطايا نالت, بدرجات متفاوتة, من شرعية النظام الحاكم, تمثلت بصفة أساسية في مركزية السلطة والاقتراب من الشمولية. تآكل سلطات الشعب وإضعاف دولة القانون; الإمساك بالحكم تأبيدا أو توريثا وتزاوجه مع المال; تراجع الحقوق والحريات العامة والعدل الاجتماعي, وتردي السياسة الخارجية والدور الريادي لمصر.. وفي الحادي عشر من فبراير2011, سقطت الجمهورية الأولي لتخلفها.. غير أن قراءة موضوعية للحالة المصرية اليوم تجدها صادمة لا تري تغيرا نوعيا في تلك الخطايا أو رؤية علمية شاملة تعززها سياسات وخطط عملية لعلاجها أو التخفيف من آثارها الانكسارية الضاغطة, بل استمرارها في ثوب جديد وتحت عباءة مغايرة. لقد أدار القابضون علي شئون الدولة ظهورهم لذاك الإرث وأضافوا إليه عشرة كاملة لتجعل المشهد في مجمله أشد قسوة وأبعد أثرا علي حياة المصريين ومستقبل الوطن في المجالات كافة, وتكاد تطفيءأي أمل نحو انفراجة في الأجل المنظور.. ونوجز الخطايا الموجعة فيما يلي: أولا دولة بهوية دينية, يجري تشكيلها علي نحو ممنهج ومتدرج بكفالة دستور وقوانين تم ويتم صياغتها لخدمة الهدف. كما أعطي الدستور, الذي جري إقراره بنسبة هي الأشد هزالة وهزلا في صناعة الدساتير, لرئيس الدولة صلاحيات أكثر اتساعا وشمولا, كما استباح الرئيس لنفسه في مرحلة ما تحصين قراراته وما يصدره من إعلانات. والمتابع للقوانين والإعلانات والقرارات التي أصدرها الرئيس يري أن العديد منها يفتقد إلي الدراسة وحسن المشورة. ثانيا مع الاستحواذ علي المؤسستين التشريعية والتنفيذية, تضمن الدستور نصوصا تنال من المؤسسة القضائية وتلقي بظلال حول استقلالها خصوصا فيما يتعلق بالمحكمة الدستورية العليا واختيار النائب العام; وهناك انفلات أمني وأخلاقي غير مسبوق في الحياة المصرية نال من هيبة الدولة وغاب سلطان القانون وأصيبت أجهزة الأمن بشروخ انعكس علي أدائها.. والمحصلة سلام اجتماعي مهدد واستثمارات هاربة ومتراجعة وانعكاسات اقتصادية واجتماعية وسياسية يصعب تقديرها. ومما يصيب كيان الدولة في مقتل, وبدلا من تعزيز أجهزة الأمن السيادية وتمكينها, اقتراح منح الضبطية القضائية للمواطنين والتلويح بتشكيل لجان أمنية شعبية, وهي الوجه المبطن للميليشيات الخاصة, وبإعطائها حق الضبطية القضائية, الأمر الذي يفسح المجال أمام فوضي عارمة وتخليق دويلات داخل الدولة تنازعها السيادة ويقضي علي ما تبقي من سلطة القانون وهيبة الدولة. ثالثا انقسامات وتشرزمات غير مسبوقة بين أبناء الوطن, الأمر الذي يهدد لحمة الأمة ويخل بتماسكها ويفتت طاقاتها ونخبها, ويحمل معه مخاطر طائفية وصعوبة تخليق قوي تنافسية متوازنة قادرة علي الوصول إلي السلطة وتداولها بعيدا عن استمرار احتكار الحزب الواحد. وقد جري تقنين الإقصاء وتشويه مبدأ المواطنة والانتقاص من الحقوق والحريات العامة في الدستور والقانون, الأمر الذي يصيبها بعوار يطاردها بالبطلان. وتم الإمساك بمفاصل الدولة الذي يستلزم بالتبعية أخونتها, وبصفة خاصة المؤسسات السيادية والقطاعات الجماهيرية والمساجد والمحليات ومنظمات المجتمع المدني الأكثر تأثيرا, لتحقيق الانتشار وتعظيم القدرة علي الحشد لتأمين الاستمرار في السلطة بمنطق الغلبة والمغالبة وإقصاء الآخر أو تهميشه.. ويؤكد رئيس حزب النور السلفي في مواجهة مع الرئيس هذه الحقيقة التي يجري تفعيلها بإيقاع سريع. رابعا علي خلفية تغليب خصوصية انتماء شخص الرئيس علي عمومية مسئولية المنصب, طال إهمال مطالب الجماعة الوطنية وطرحها في حوار جاد يتم التخطيط له وفق مباديء حاكمة وضمانات بالالتزام بما يستقر عليه توافق النخب الممثلة للضمير الجمعي للأمة, وبصفة خاصة حول موقف السلطة من الخطايا الراهنة, الموروث منها والمستحدث, وسياستها في التعامل معها وكيفية الخروج من مأزق الحالة المصرية; مراجعة الدستور والقوانين المكملة له; مؤسسة القضاء والنائب العام; حكومة الإنقاذ الوطني, وغيرها مما تتضمنه أجندة متفق عليها للحوار. خامسا من الخطايا المركبة الإهمال الجسيم لملف الأموال المدعي حتي الآن نهبها وتهريبها خارج البلاد.. لقد مضي أكثر من عامين وبقي هذا الموضوع لغزا مكتوما لم يكاشف بحقيقته الشعب, صاحب السيادة علي أمواله والمصلحة الحاكمة فيها, وبصفة خاصة حجم الأموال وكيف جري نهبها وتهريبها وأين توجد ومتطلبات استردادها ومدي قدرتنا واستعدادنا علي تلبيتها والإجراءات اللازمة لذلك والصعوبات التي تواجهنا.. وباتت الأموال في مهب الريح فلا جميع الدول المستضيفة لها أعلنت عن نفسها; ولا المصادر بداخلها معروفة لدينا; ولا نملك وثائق قاطعة تعززها أحكام قضائية نهائية تحددها وتدينها وتلبي متطلباتها. وفي هذا السياق, داخليا, أسرفنا في نزعات الانتقام ونرفض التصالح الذي يمتزج فيه العدل بالواقعية والسياسة بالممكن, مع أهمية ذلك في ضوء ضآلة فرص استرداد الأموال بالطرق الأخري, بل إن التصالح الطوعي سوف يضع الجهات المستضيفة لتلك الأموال في مأزق حقيقي يجبرها في النهاية علي الإفراج عنها وإعادتها.. سادسا السياسة الخارجية, المتردي إرثها, تراجعت درجات إضافية وباتت مصر في شبه عزلة فاقدة القدرة علي التأثير عربيا وإقليميا وإفريقيا ودوليا.. تلك السياسة تنال من استقلالية الإرادة المصرية; تهدد مواردنا المائية; تشكل خطرا علي اقتصادنا; تهدد أمن حدودنا, وأضعفت قبضة مصر علي أرضها في شبه جزيرة سيناء وباتت سيادتها عليها منقوصة وأضحت ملاذا آمنا للإرهاب وتجار السلاح والمخدرات والمهربين, كما أعجزتها السياسة المتخاذلة عن التعامل مع تجار الأنفاق, والتي جري حفرها عنوة في الأرض المصرية لتشكل تهديدا مباشرا للسيادة والأمن القومي والاقتصاد والسلام الاجتماعي.. وبعد, فمصر الجمهورية الأولي والثانية استحلتها شرعية حكم مفروض عسكريا تارة, وجري تكريسها في مسار أقرب إلي الدينية بمنطق المغالبة والاستحواذ والوعد والوعيد, وبموجب دستور وقوانين مليئة بالعوار, تارة أخري.. وفي الحالتين افتقدت الشرعية أصولها وتأصيلها, وباتت بخطاياها وغياب الرضا الجمعي للأمة بها منحرفة منقوصة تآكلت في الأولي ويجري تآكلها في الثانية.. وأضحت السلطة تتنازعها أزمة البقاء وبقاء الأزمة.. ويبقي لنا أن نصرخ بصوت وطن مكلوم.. لك الله يا مصر.. لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى