اضطره إغلاق مجمع التحرير لنقل جزء من نشاطه إلي نادي قضايا الدولة, وعندما دخلت أنا وزميلي المصور القاعة الواسعة علي نيل الزمالك, رحب بنا ببشاشة,واستأذن لدقائق ينهي ما بيده من أعمال. شردت قليلا.. في البدء كانت مصر, علي تلك الضفاف نبت الضمير والحب والخير والفضيلة والعدالة, اكتشفها المصري القديم وهو يعمل في حقله, ثم وهبها للعالم في صورة ماعت رمز القانون الأخلاقي والإحساس الإنساني. لكن الأوضاع تغيرت, النيل يتمرد جنوبا, والوطن في محنة وقواه السياسية في ورطة, بعدما صارت الحرية والعدالة حزبا, والضمير جبهة..جاءني صوت المستشار محمد عبدالعظيم الشيخ رئيس هيئة قضايا الدولة, وهو يطوف بتجاربه وخبراته علي مدي50 عاما قضاها بين أروقة المحاكم وردهات القضاء, رجل جمع باقتدار بين الصمت والإنجاز, تمكن منه الحذر,بما يناسب شخصيته القضائية المخضرمة, يعتز بشموخ برئاسته أقدم هيئة قضائية في مصر الحديثة, ويؤمن بأن قرونا تجري في إثر قرون, وتبقي مصر في مكانها, تبني وتنشئ وتعمر وتكتب وتنشد وتصلي وتتألق وتتوهج وتخبو, ثم تتألق وتتوهج. المستشار عبدالعظيم الشيخ, بعد ابتعاد طويل عن أضواء الإعلام, فتح أشرعة الحوار للأهرام- تحديدا-حول قضايا شائكة في ساحة القضاء والمحروسة.. موجة غضب اجتاحت بعض مستشاري هيئة قضايا الدولة ضد وزير العدل, لتبنيه مشروع قانون الوساطة القضائية الخاص بفض المنازعات, بوصفه عدوانا علي اختصاصات الهيئة, فكيف ترون الأمر؟ في واقع الأمر لم ترسل لنا وزارة العدل صورة لمشروع هذا القانون, حتي نتمكن من دراسته عن طريق المكتب الفني, ثم عرضه علي المجلس الأعلي للهيئة, لكن ما نشر بشأنه في وسائل الإعلام أثار قلق السادة المستشارين أعضاء الهيئة, لأنه شكل انتقاصا من اختصاصاتها الواردة بالدستور, وسوف تعلن قضايا الدولة رأيها النهائي في هذا المشروع بعد دراسته دراسة كاملة. ألا يعكس هذا توترا في العلاقة بين وزارة العدل وقضايا الدولة؟ العلاقة طيبة جدا بين الهيئة والوزارة, وهي قائمة علي التعاون والاحترام المتبادل, بصرف النظر عن أن الخلاف حول مسائل قانونية يظل واردا أحيانا. إذن ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الهيئة, في إطار الحديث عن قوانين جديدة للتصالح مع رموز النظام السابق, في الشق المالي وما نهبوه من أموال الشعب؟ هيئة قضايا الدولة كان لها بفضل الله- السبق في الادعاء مدنيا ضد كثير من رموز النظام السابق, دون طلب من جهة تنفيذية, في القضايا الجنائية التي قدموا للمحاكمة فيها عن تصرفات لإهدار المال العام أو استلابه.. هلا أعطيتنا مثلا؟ لقد ادعت الهيئة مدنيا في قضية تراخيص شركة الحديد لأحمد عز, وقضية جزيرة البياضية وغيرهما, أما دور الهيئة في التصالح( ماليا) مع رجال النظام السابق, فهو مشروط بموافقة الدولة علي هذا النمط في تحصيل الأموال المنهوبة, وطبقا لما يقرره القانون. ويجري إعداد قانون للهيئة ليتواكب مع اختصاصاتها الواردة بالدستور الجديد, سيكون هو الفيصل في تحديد دورها. وقانون الهيئة القائم حاليا ألا يتيح لكم دورا في هذا الخصوص؟ طبقا للقانون الحالي, للهيئة إبداء الرأي في عقود الصلح التي تعرضها عليها الجهات الإدارية, بمناسبة قضية تباشرها الهيئة, ويقتصر دور الهيئة علي الموافقة أو الرفض, دون وجود آلية لمراقبة الجهة الإدارية في إنفاذ رأي الهيئة, وذلك ما سيتم تداركه في القانون الجديد. بمعني؟ أي أن يكون رأي الهيئة ملزما لجهة الإدارة في كل العقود والمنازعات, سواء كان ذلك بمناسبة قضية تباشرها الهيئة أو غير ذلك, خاصة أنه من اختصاصاتنا طبقا للدستور الجديد إعداد العقود. هذا ينقلنا إلي جانب لا يقل أهمية, وهو الأموال المنهوبة بالخارج, ودور الهيئة في استعادتها؟ القانون الحالي يجعل دور الهيئة في هذه المسألة يبدأ بعد صدور أحكام نهائية باتة, من المحاكم المصرية:إدارية أو مدنية أو جنائية, باتخاذ إجراءات تنفيذها بالخارج, والحصول علي صيغ تنفيذية من المحاكم الأجنبية, طبقا لقوانين الدول الموجودة بها. أما ما يسبق ذلك من خطوات فليس للهيئة دور فيها, اللهم إلا توكيل محامين بالخارج, بناء علي طلب النيابة العامة, أو إدارة الكسب غير المشروع, وهو ما حدث بالفعل. ما حجم الأموال المنهوبة المهربة للخارج؟ لا يستطيع أحد الآن- تحديد قيمتها علي وجه الدقة, فقد هربت سرا للخارج, في حسابات سرية, وجري نقلها من بنك لآخر, وكثير منها وصل إلي بنوك كايمان, والبهاما, ومن العسير تقديرها وتتبعها.. لكن هناك إحصاءات قدرت الأموال المهربة بعشرات المليارات!! جميع الأرقام التي ذكرت من بداية الثورة أرقام عشوائية اجتهادية, لاسند لها علي الإطلاق, وقد أثارت حفيظة المصريين, إذ تصوروا أن الدولة فرطت في استرداد تلك الأموال بهذه الصورة, بينما تعوق قوانين الدول الأجنبية استردادها دون أحكام نهائية. إلا إذا تعلق الأمر بمفاوضات( سياسية/سيادية) مع الدول والبنوك الأجنبية, عبر مفاوضات مضنية تجريها الدولة حاليا. ترددت أنباء عن إنشاء لجنة مختصة باستعادة تلك الأموال تمثل بها كل الجهات المختصة, فما مدي صحتها؟ هناك مشروع لإنشاء جهة موحدة, تمثل فيها الجهات ذات الشأن, وتمنح اختصاصات واسعة لتحقيق غرضها في البحث والتقصي وتجميد الأموال والحصول علي أحكام واستردادها في نهاية المطاف, وهيئة قضايا الدولة إحدي تلك الجهات, نظرا لدورها في اتخاذ الإجراءات القضائية نيابة عن الدولة. لكن الهيئة أثارت دهشة واسعة في المجتمع, عندما طعنت علي أحكام عودة شركات مخصخصة للدولة؟!! هيئة قضايا الدولة طعنت علي( بعض) الأحكام وليس كلها,ومن وجهة نظر قانونية مجردة, فمثلا حكم شركة عمر أفندي لم نطعن عليه, لوضوح الأمر بشأنه, وقد أصدرنا بيانا بالأسباب التي من أجلها طعنت علي بعض الأحكام, ومنها أن الطعن من وجهة نظر قانونية راعت ما شاب الأحكام من أخطاء قانونية واضحة, تهدر قواعد التنظيم القضائي المتعلقة بالنظام العام الذي تسهر الهيئات القضائية, ومنها قضايا الدولة علي حمايتها, فالهيئة تؤدي أمانتها وتزن تلك الأحكام بميزان القانون, فتؤيدها فيما أصابت, وتطعن علي ما خالفت منه صحيح القانون, لإرساء الحقيقة واستقرار المراكز القانونية. لكن أحكام عودة هذه الشركات تدعم الاقتصاد الوطني. نعم, لكني أحدثك عن الطعن علي بعض هذه الأحكام, إذ راعت الهيئة ما تسببه هذه الأحكام من عواقب اقتصادية تضر بالمصالح العليا للبلاد, وتأثيرها السلبي علي مناخ الاستثمار وهروب رءوس الأموال الأجنبية للخارج, وإظهار للدولة علي غير الحقيقة- بمظهر المتحلل من التزاماته التعاقدية, وهو ما يضر بسمعتها الدولية التي سعت إلي ترسيخها, عبر التزامها بتعهداتها الدولية والتعاقدية. ويثير العديد من العقبات ويؤدي لنتائج يتعذر تداركها, فإحدي هذه الشركات مثلا, اختفت من الوجود وأقيمت مكانها وحدات سكنية.كما أن تنفيذ هذه الأحكام يحمل خزانة الدولة مبالغ مالية طائلة, في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلاد, بتعرضها لشرط التحكيم الوارد بتلك العقود, وعموما الهيئة طعنت من ناحية قانونية,تاركة( موضوع الدعاوي) للشركات نفسها, وللعلم فقد أيدت المحكمة الإدارية العليا الأحكام التي سبق الطعن عليها في أول درجة, وأعادت تلك الشركات إلي الدولة مرة أخري. لماذا يتم اللجوء للتحكيم الدولي في بعض القضايا, في وجود القضاء المصري؟ توجد اتفاقيات ثنائية بين مصر وعديد من الدول تربو علي102 دولة, تتضمن شرطا بأحقية المستثمر التابع للدولة المتعاقدة في اللجوء للتحكيم الدولي, بشأن أي نزاع ينشأ عن مخالفة مصر التزاماتها الواردة بهذه الاتفاقية. يصمت قليلا, ثم يقول بأسي واضح: والحقيقة أن كثيرا من هذه العقود شابها العوار والتحيز لمصلحة المستثمر الأجنبي وإهدار حق الدولة المصرية, بل إن بعضها يكاد يكون عقد إذعان من مصر لهذا المستثمر!!.. هنا أباغته: ألم يكن لهيئة قضايا الدولة دور في تلك العقود؟؟!! يجيب متعجلا وكأنه ينتظر السؤال: إطلاقا..إطلاقا..إطلاقا. لذا فالدستور الجديد تضمن اختصاصا أصيلا للهيئة بإعداد العقود التي تبرمها الدولة المصرية وأجهزتها مع أي كان. وفي قانونها الجديد تتناول الهيئة دورها في الاتفاقات المبرمة بين مصر والدول الأخري, إذا تعلق الأمر بموضوع الاستثمار والتنازع بشأنه كقضايا, لأنه يدخل في اختصاصنا. وكم عدد القضايا المقامة ضد مصر أمام التحكيم الدولي؟ بالنسبة للتحكيم الاستثماري أمام الإكسد( مركز تسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي بواشنطن) ومحكمة التحكيم الدائمة بلاهاي, هناك10 تحكيمات, وتم الفصل في قضيتين أمام الإكسد وكسبناهما, قيمة إحداهما837 مليون دولار في مايو2012, وباشرها قسم المنازعات الخارجية بالهيئة منفردا, دون الاستعانة بمكتب محاماة أجنبي, والثانية مالكورب بقيمة520 مليون دولار في فبراير2011. أما بالنسبة للتحكيمات التجارية الدولية( أي.سي.سي) غرفة التجارة الدولية بباريس ومركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي, فقد فصل في5 تحكيمات, كسبت الهيئة4 منها, باشرتها الهيئة منفردة, وقيمة هذه القضايا مجتمعة نحو8 مليارات و200مليون جنيه مصري, وخسرنا قضية واحدة بنحو نصف مليون جنيه, وجار الطعن عليها بالبطلان, أمام المحاكم المتخصصة. بعد وقف تصدير الغاز لإسرائيل هل قامت تل أبيب برفع قضية أمام التحكيم الدولي؟ ليس إسرائيل كدولة, وإنما مستثمرون من جنسيات مختلفة مشاركون في الشركة المسئولة عن تصدير الغاز لإسرائيل, لجأوا للتحكيم الاستثماري ضد الدولة المصرية, بدعوي أنها أضرت باستثماراتهم. والحديث أخيرا عن طلب اليهود المصريين تعويضات من مصر؟ لم تحدث أي دعاوي حتي الآن. تسربت أنباء عن طلب مصر نحو485 مليار دولار من إسرائيل, تعويضا عن استنزاف ثروات سيناء في أثناء احتلالها, وأشياء أخري, فما مدي جديته؟ لم يصلنا شيء بهذا الخصوص في هيئة قضايا الدولة, ومن ثم لا أستطيع التحقق منه وماهية الإجراءات التي سيتم اتخاذها. وما رأيكم بوضع الهيئة في الدستور الجديد؟ حصلت الهيئة علي حقها الطبيعي في النص علي أنها هيئة قضائية مستقلة واختصاصاتها بالدستور, وهو حق طبيعي كان مغفلا, لمنع تغول السلطة التنفيذية أو غيرها عليها, وهي التي تدافع عن الحق العام والمال العام, بحسبانها أقدم هيئة قضائية في مصر, منذ عام1875, قبل القضاء العادي الموقر ب8 أعوام, والتي من رحمها خرج مجلس الدولة والنيابة الإدارية, والتي كانت اختصاصاتها آنذاك تشمل إعداد المعاهدات الدولية والقوانين والتشريعات الفرعية وإبداء الفتوي والتحقيق مع الموظفين المخالفين. وأول رئيس مصري لها عبدالحميد باشا بدوي الذي كان وزيرا للخارجية والمالية, والمفاوض المصري الوحيد ضد الدول الأجنبية كلها في معاهدة إلغاء الامتيازات الأجنبية بمونتريو عام1937, وأخيرا أول قاض مصري وعربي وأفريقي وآسيوي بمحكمة العدل الدولية بلاهاي. ولماذا تأخر صدور قانون الهيئة الجديد؟ ليس ثمة تأخير, إذ أن الهيئة كانت تنتظر إقرار الدستور وما ورد بشأنها وما أسند إليها مستحدثا من اختصاصات, حتي تتمكن من التقدم بقانونها, متوافقا مع النص الدستوري الجديد, وهو ما يجري إعداده, بالإضافة إلي أن هناك تشريعات في مختلف الحياة المصرية تحتاج تعديلات لتتوافق مع الدستور, بما يلقي عبئا ثقيلا علي المجلس التشريعي الحالي, مع تقدير أولوية طرح التشريعات تباعا أو انتظار المجلس النيابي المقبل. هل عصفت الأزمات السياسية الحادة والمتعاقبة أخيرا بوحدة الصف القضائي؟ بداية, فإن القضاء المصري ينبغي أن يتمتع بالاستقلال التام عن جميع السلطات الأخري, فاستقلال القضاء التام ضمانة, ليس للقضاء فقط, لكن للمواطن المصري في حريته وحقه في العيش بكرامة وفي نظام ديمقراطي وفي دولة يسودها القانون, وينبغي علي جميع الأطراف تجنب الزج بالقضاء في معترك السياسة, تجنيبا له, بحكم موقعه الحاكم في دولة القانون, وهو أمر خطير, وإنني لأظن الخير دائما بالقضاء والقضاة والهيئات القضائية المختلفة, وأن ليس ثمة تنازع ولا فرقة, وإنما قد يكون اختلاف في الرأي, وهو شيء وارد, لايفسد للود قضية, ولا يمس جلال القضاء وهيبته.