لقد أغرقتنا الجمعية التأسيسية المنوطة بوضع مشروع دستور الأمة, ومنذ تشكيلها المعيب, في صراعات تحكمها وتديرها ثقافات وفلسفات ترسخت تراكميا لدي أصحابها يلتحف معظمها عباءة الدين, بينما يري البعض الآخر العباءة من منظور مغاير.. علي مدي أكثر من ستة أشهر شهدت الجمعية سجالا غير متكافيء عدديا وبات الأمر مهيأ بالضرورة لتخليق أزمات يرجع بعضها للعوار الذي أصاب ميلاد هذا الكيان من الأساس, وبعضها الآخر تفجر من داخله, ثم امتدت التداعيات لتصل إلي الشارع المصري وتفرض نفسها علي المناخ العام.. وأسهم في تأجيج ذلك تصلب المواقف وصلابة العناد وغياب الخبرة والافتقار إلي الحكمة في إدارة الأزمة سواء في داخل الجمعية أو علي المستويات المختلفة والمتعددة خارجها خصوصا تلك التي تتحصن بالأغلبية وتحتمي بأدوات السلطة وآلياتها. في هذا المناخ وجدت الجمعية نفسها في مواجهة مباشرة مع مأزق مزدوج يحمل حدين كلاهما قاسم وباتر, إما التسرع والإسراع في إنتاج مسودة الدستور, حتي لو غاب عنه التوافق الجمعي للأمة وتجاهل تاريخها الدستوري العريق, وفرضه أمرا واقعا, وإما أن تغامر حتي يغافلها قرار مؤجل ومرتقب بالبطلان لعوار في تشكيلها للمرة الثانية.. ومن هنا كان الإصرار علي اللا بديل الأول فأخرجت صباح يوم الثلاثين من نوفمبر مسودة لدستور تعاني من تشوهات ليس فقط من حيث ضبابية المقاصد وسيولتها, بل أيضا, وعلي خلاف المألوف, غلب عليها الإغراق في التفاصيل والفروع, التي تتناولها عادة القوانين المكملة للدستور, بدلا من الاكتفاء بالمبادئ والأصول... وذلك كله بغير اعتبار للموقف الدستوري المرتعش للجمعية والانسحابات المتكررة لمعظم الأعضاء الذين لا ينتمون إلي تيارات الإسلام السياسي.. وبات ضروريا, والحال كذلك, البحث عن إجراء عاجل يحصن تلك المسودة التي صدرت في مشهد تشوهه قسوة المغالبة وظلم الإقصاء وفجاجة التهميش.. من الطبيعي أن تحقيق ذلك يستلزم بالضرورة تحصين الجمعية ذاتها.. فجاء الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ22 نوفمبر... لكن لم يكن ذلك هو الهدف الوحيد للإعلان, فقد تناول موضوعات أخري بعضها لا يرقي إلي مادة دستورية ومحله قرار بقانون, وبعضها الآخر لا يضيف جديدا إذ تحكمه قوانين قائمة لكنها وردت علي سبيل التجميل بهدف تمرير الأخطر والأهم المتمثل في تحصين تأسيسية الدستور ومجلس الشوري وكل ما صدر أو يصدر عن رئيس الجمهورية... ليبدو أننا نتعامل مع عقول غائبة أو مغيبة يسهل الاستهانة بها, أو مع شعب فقد هويته ونسي تراثه وتراجع مسافات إلي الخلف.. مسلوب الإرادة صأعزل لا يملك أدوات الانتفاضة لكرامته واستدعاء استحقاقاته والإصرار عليها... لقد ألقي الإعلان بغبار كثيف يثير قلقا مشروعا حول إمكانية الحكم الرشيد المأمول الذي يعلي سلطان الشعب ويعظم سيادة الدستور والقانون.. مع التسليم باحتمالية إقرار مسودة الدستور في استفتاء شعبي عام, فإن التساؤل يفرض نفسه كيف يمكن الثقة في مشروعية تلك الوثيقة وقبولها عقدا اجتماعيا يشكل دستورا للأمة ونحن أمام عوار صارخ ومزدوج في الشكل والمضمون.. فمن حيث الشكل فالعوار ثلاثي المحاور أولا بطلان يلاحق الجمعية التأسيسية, ومن ثم فإن الباطل لا ينتج إلا باطلا منعدما; ثانيا لقد ولدت مسودة الدستور مشوهة بحسبان أن جانبا لا يقل عن35% من الأعضاء الذين أدلوا بأصواتهم عليها لم يشاركوا اصلا في المناقشات التي دارت حولها وفي صناعتها بل اسقطوا علي الجمعية بطريق الإحلال في اللحظات الأخيرة.. وثالثا, ولعل هذا هو المحور الأهم, أن نسبة لا تقل عن40% من الكتلة التصويتية التي يمكن أن تشارك في الاستفتاء إما يعيشون تحت مستوي الفقر أو يعانون من أمية أطبقت عليهم بظلمها وظلامها, وتلكم شريحة كبيرة يسهل التأثير عليها في اتجاه معين, أما لكونها لا تمتلك الإرادة المتحررة من العوز أو بسبب الجهل والجهالة التي تفقدها الوعي بنصوص الدستور وإدراك أهميته, الأمر الذي يعيد إلي الأذهان مناخ ما أطلق عليه غزوة الصناديق الذي سيطر علي استفتاء مارس2011, وافرز إعلانا دستوريا فاسدا أسس للواقع المضطرب الذي نعيشه. من ناحية أخري فإن عوار المضمون يصيب ليس فقط الروح العامة للوثيقة ويلقي بضبابية علي مزاجها ويثير تساؤلات مشروعة حول ما إذا كانت تكرس لدولة دينية تكاد تقترب علي استحياء من نظام الولي الفقيه, لكن بغطاء مدني, بل يلحق أيضا الكثير من موادها بعضها حاكمة مثل المادتين الرابعة والتاسعة عشرة بعد المائتين حيث يفسح المجال لإجتهادات وتفسيرات تخضع لمزاج البشر وربما تتأثر بنزعات السلطة وأهواء السلطان, كما تقحم المؤسسة الدينية وفقاءها في معترك السياسة ومفسداتها.. كما أن ثمة خللا في مواد أخري يمثل بعضها شخصنة مجاملة للسلطة كما هو شأن المادتين226 الخاصة بتحصين الفترة الرئاسية الأولي, والمادة234 التي تحصن الإعلانات الدستورية بما فيها الأخير منها; أو نيلا من استقلال السلطة القضائية أو إستباقا لأحكامها أو عدوانا عليها, كما هو شأن المواد178,177,176,173,169 و235; أو تقليل من شأن مهنة المحاماة كما هو شأن المادة181; أو جاءت بروح تصفية حسابات والتشفي والانتقام كما هو الحال بالمادة232; أو كرست لاستفتاء الأمية واكتفت بالأغلبية وعدم اشتراط الثلثين لنفاذه, الأمر الذي يفسد الاختيار ويضعف المشروعية ويبعدها عن تمثيل الإرادة الحقيقية للأمة, كما هو شأن المادة225; أو أضعفت دور مجلس الدفاع الوطني, بالنسبة لإعلان الحرب أو إرسال قوات مسلحة خارج الدولة, كما هو شأن المادة146; أو جاءت مخالفة للقوانين القائمة والمواثيق الدولية ذات الصلة كما هو شأن المادة70 الخاصة بحقوق الطفل وتشغيل الأطفال; أو وردت في غير موقعها كما هو حال المادة61 الخاصة بإلزام الدولة بمحو الأمية خلال عشر سنوات والتي يتعين أن تكون إنتقالية, أو تحمل مغازلة سياسية لشريحة من المواطنين كما هو شأن المادة236 التي أبقت علي نسبة تمثيل العمال والفلاحين في مجلس النواب وتكرس إرث اشتراكي فضلا عن كونها تمييزا مقننا... لقد بات جليا أن مسودة الدستور صناعة عوار مليئة بالتشوهات; منزوعة الصلة بالضمير الجمعي للأمة; تعبر عن فكر من صوتوا لها عن وعي بها; لا تؤسس لدولة القانون وتلقي بظلال علي هوية المجتمع; تزعزع السلام الاجتماعي, ضبابية فضفاضة تحيل إلي قوانين مكملة سوف ينتقل إليها صراع المصالح ويحكمها منطق المغالبة. وفي احتفالية مراسيمية تسلم رئيس الجمهورية مسودة الدستور مساء يوم الأول من ديسمبر, وأعلن دعوة الناخبين للاستفتاء عليها في الخامس عشر من الشهر نفسه... قرار يكرس انقسام الأمة ويوسع دوائره ويضعف فرص التوافق والمصالحة الوطنية ويدخل الوطن في منعطف عاصف يصعب التكهن بتداعياته علي أوضاع متردية لشعب لم يعد يحتمل.. مصر اليوم في مفترق طرق مليئة بالمنحنيات والجسور والأشواك صنعها بعض من أبنائها, إما عن غير تقدير لمخاطرها أو لصراعات أهداف ذاتية ضيقة تعلو مصالح الأمة... فهل من تغليب للحكمة واستنهاض لهمم الحكماء لتصحيح المسار قبل فوات الأوان وإغراق الوطن في ظلمات تمزقات وفوضي تهدد أمنه وكيانه وتعرقل مسيرته وتعوق تقدمه وتنتكس بالأمة إلي عقود ؟ المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى