كثيرا ما تعتبر العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية علي طرفي نقيض, سواء من حيث مضمونيهما أو من حيث دعاتهما. فالشائع أنه بينما يتمسك ثوار يناير بالعدالة الانتقالية, ويعتبرون المصالحة الوطنية مجرد عفو غير مشروط عن النظام السابق, يروج فلول النظام السابق للمصالحة الوطنية ويرون في العدالة الانتقالية إجراءات استثنائية قد تتنافي وحقوق الإنسان. وبحكم ما حازه النظام السابق من سلطة وثروة, فقد حصل الجيل الثاني منه تعليما راقيا, أتاح له( ضمن عوامل أخري) الالتحاق بالوظائف الهامة بالجهاز التنفيذي للدولة والقطاع الخاص. ونظرا لما لحق بالجيل الأول من النظام بصفيه الأول والثاني جراء الثورة, يشعر الجيل الثاني إزاءها بحنق, يسهل تبينه وإدراجه ضمن مصطلح قوي الدولة العميقة, إلا أنه يصعب معه إقصاء هؤلاء لمجرد أنهم أبناء لأعضاء النظام السابق, بل ويفرض استيعابهم. المبدآن اللذان تقدمهما التجارب التاريخية للانتقال في هذا الصدد هما شخصية العقوبة وعدم التشهير. وفي حين يعد الأول مبدأ قضائيا صرفا; إذ لا يؤاخذ امرؤ بجرم غيره, فالآخر يتخذ طابعا إعلاميا; كونه ضابطا فرضته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية علي حرية الرأي والتعبير. وفي هذا الإطار, كان ينبغي وضع تعريف دستوري واضح لفلول النظام السابق, ورؤية دستورية أوضح لمصيرهم, بحيث لا يتم, من جهة, توسيع المفهوم علي نحو يفرغه من مضمونه ليعتبر كل المصريين فلولا, وبالتالي فالجميع في الجرم سواء ولا محل للمساءلة. ومن جهة أخري, لا يقتصر المفهوم علي السجناء من رموز النظام السابق, وإلا فلن يسقط ذلك النظام. علاوة علي ذلك, كان ينبغي النص علي عقوبات قانونية, جنائية بالنسبة لمرتكبي الأفعال المجرمة قانونا, وسياسية فيما عدا ذلك. سياسيا, فالمادة232 من الدستور لا تحقق الهدف المنشود; إذ اقتصر تعريفها لقيادات النظام السابق علي بعض شخصياته الحزبية والبرلمانية دون قياداته التنفيذية, كما حددت سريانها بعشر سنوات, فضلا عن ضعف صياغتها التي اشترطت( وفقا لتفسير المحكمة الدستورية العليا) لحظر العمل السياسي علي عضو البرلمان عن الحزب الوطني المنحل أن يكون قد جمع عضوية برلماني2005 و.2010 كما أن ذات المادة سلبت قيادات النظام السابق حقهم في التصويت. وجنائيا, كان المأمول أن تفضي محاكمات ثورة يناير في إطار القضاء العادي إلي قصاص, يقر أعين أسر الشهداء والمصابين, وهو ما لم يتحقق حتي اللحظة. إذن فلم تتحقق العدالة بشقيها السياسي والجنائي, وبالتالي ما زالت المصالحة الشاملة ضربا من الوهم. ومن هذا المنطلق, فثمة ضرورة سياسية ومجتمعية لسن نظام قانوني متكامل للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية, يعاقب مرتكبي الجرائم بالقصاص أو السجن أو التغريم( الدية), ويحظر الترشح في الانتخابات العامة بأنواعها وتولي المناصب القيادية بالسلطة التنفيذية علي فلول النظام السابق وفقا للتعريف الدستوري, دون حرمانهم حقهم في التصويت في الانتخابات والاستفتاءات العامة, ثم يقوم باستيعابهم في المجتمع وفقا لهذين الشرطين: أداء العقوبة, وحظر الترشح وتولي المناصب التنفيذية. ويقتضي الوصول إلي تلك المحصلة خمسة إجراءات رئيسية: الأول: تعديل المادة232 من الدستور, لتسمح بالتصويت لقيادات النظام السابق في الاستحقاقات العامة, مع منعهم من الترشح ثلاثين عاما( تعادل فترة حكم نظام مبارك), علاوة علي إعادة تعريف مصطلح القيادات, ليشمل أيضا القيادات التنفيذية للنظام السابق, سواء انتموا للحزب الوطني أو لم ينتموا رسميا بحكم حيادية مؤسساتهم التنفيذية. الثاني: إنشاء هيئة العدالة والمصالحة, مكونة من ثلاث غرف: مجلس المصارحة والمصالحة, ومحكمة جنايات الثورة( بما فيها نيابة الثورة), ولجنة الإصلاح المؤسسي, بحيث تعرض قضايا الثورة علي الغرفة الأولي لاتخاذ إجراءات التصالح, في استلهام لتجربة جنوب إفريقيا, ليعترف من يرغب من المتهمين بجرائمه ويعلن استعداده للتصالح مع الضحايا, شريطة رضا الضحية, وتقديم تعويض مالي يقدره القانون( الدية بالنسبة لجرائم قتل وإصابة الثوار, أو إعادة الأموال المنهوبة إلي الدولة بالنسبة لقضايا الفساد المالي, أو دفع غرامة مالية في جرائم الفساد الإداري). وفي حال رفض الاعتراف أو رفض تقديم التعويض أو رفض الضحايا للتصالح, تحال القضية إلي الغرفة الثانية لاتخاذ إجراءات التقاضي, بما تتضمنه من ادعاء ودفاع. وتقوم الغرفة الثالثة بوضع مشروعات إصلاح مؤسسات الدولة. الثالث: البناء علي خبرة القانون الجنائي الدولي, بدءا بمحاكمات نورمبرج وطوكيو, التي عاقبت مجرمي الحرب العالمية الثانية وفق إجراءات غير تقليدية لجرائم غير تقليدية, أنفذت روح العدالة لا النصوص الصماء, بعدم التزامها بقواعد لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون وعدم سريان القوانين بأثر رجعي وحصانة كبار المسؤولين, وصولا إلي نظام روما الأساسي, بما تقرره مادته28 حول مدي مسؤولية الرؤساء عن أفعال مرؤوسيهم. الرابع: بعد استنفاذ إجراءات التصالح والتقاضي, ينبغي إعادة دمج من تطلق الهيئة سراحهم بأن يسمح لهم بالعودة إلي وظائفهم, وليس إلي مناصبهم العامة سواء كانت سياسية أو إدارية, مع جواز إعادة ترشحهم أو تعيينهم لتلك المناصب, ما لم يشملهم تعريف قيادات النظام السابق وفقا للدستور. الخامس: ينبغي أن يتواكب مع إنشاء هيئة العدالة والمصالحة التصديق علي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية, متضمنا قبول اختصاصها منذ بدء عملها في الأول من يوليو2002, وإصدار قانون يجرم التشهير الإعلامي دون دليل مادي. ويظل نجاح تلك الإجراءات في تحقيق المصالحة الشاملة رهنا بالحفاظ علي الدولة القومية, والعمل علي سيادة القانون ليتساوي في ظله المواطنون, وبلورة مشروع قومي, يجتمع عليه سواد الشعب, لتتطور الثورة من مجرد تغيير سياسي إلي تحول اقتصادي واجتماعي, يربط بها أقوات الناس ومستقبلهم, وحينها سيدينون تلقائيا بالولاء للثورة.