تقسم بشري أن صوت الموسيقي لايفارق أذنيها وهي تنظف سلم الطابق الثالث من العمارة، وأن عفريت الأستاذ شكري يقيم في الشقة المغلقة منذ العثور عليه ميتا بالداخل. كانت هي أول من انتابه الشك حول غياب الأستاذ شكري فقد مضي أكثر من ثلاثة أسابيع لم يظهر خلالها ولم يترك لها الثلاثة جنيهات أجرة تنظيف السلم تحت الدواسة كما هومتفق عليه بينهما حال غيابه، ثم بدأت رائحة نتنة تفوح من شقته، أبلغت بشري صاحبة العمارة بالأمر والتي بدورها استشارت ابنها المحامي المتحنلق فأفتي بضرورة إبلاغ الشرطة وعدم التصرف بفتح الباب إلا من خلال أمر النيابة، هكذا وقفت عصا القانون الغليظة أمام رغبتها في سرعة الإطمئنان علي الرجل. وقف رجال الشرطة بالباب ومعهم مندوب عن عائلة الأستاذ شكري وصحبة لا بأس بها من السكان تتقدمهم بشري بوجه ملهوف يبدوعليه التوتر أكثر من الجميع. بينما وقف الجميع يتأملون المشهد في دهشة إذ كانت الشقة عبارة عن صالة كبيرة تتوسطها بعض الأعمدة وترتص حول محيطها الآلات الموسيقية بجميع أنواعها ومعلقة علي الحائط لوحات لآلة فرعونية، حيث قام الأستاذ شكري بهدم الحوائط الفاصلة بين الغرف ليصنع منها هذه الصالة الكبيرة. وحدها بشري كانت تعرف جغرافيا الشقة جيدا لذلك لم تشاركهم الدهشة وتوجهت فورا نحوالغرفة الداخلية الوحيدة الباقية علي حالها، وأطلقت صرخة ألهت الجمع المندهش عن أمر الشقة واتجهوا ناحية صوت الصرخة فوجدوا ما كانوا يتوقعونه فلم يندهش أحد. منذ أن تقاعد الأستاذ شكري عن عمله كمدرس للموسيقي بمدرسة الخديوية وهومنعزل عن الناس لا يزور أحدا ولا يزوره أحد, فقط يذهب في بعض المشاوير عصرا ليعود منها بعد العشاء، عرفت بعد ذلك أنها زيارات لشارع محمد علي حيث يوصي بعض معارفه هناك بشراء آلات موسيقية مستعملة، كان قد قرر دون إعلام أحد أن ينشئ مركزا لتعليم الموسيقي في شقته وكان ينفق مكافأة التقاعد والمعاش في سبيل إنجاز مشروعه، لم يكن يدخل الشقة أحدا باستثناء بشري حيث كان يطلب منها تنظيفها مرة في الشهر بعد انتهائها من مهمتها الأساسية في مسح سلم العمارة. يحمل حقيبته "الهاند باج" حتي مدخل العمارة, ثم يلقي بها لبضع درجات من السلم ويصعد ثم يعاود إلقائها مرات حتي يصل إلي باب شقته في الدور الثالث، إذا صادف صعوده يوم مسح السلم كانت بشري تحمل عنه الحقيبة حتي لا يبلها الماء المتسرب من مسح الأدوار العليا, يسمع خرير الماء علي درجات السلم فيناديها لتحمل عنه الحقيبة, يستقبلها بابتسامة ويقول:"عارفة يا بت إنك شبه حتحور" وجه دائري ووجنتان بارزتان وعينان واسعتان مع خط الكحل فوقهما وضفيرتان تشبهان قرني حتحور. تضحك هي وترد: "الله يجبر بخاطرك ودي حلوة بقي علي كده يا أستاذ". فيقول :"هابقي أوريكي صورتها". ويظل يغازلها بدور الشيخ سيد درويش"خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب" حتي يصل للدور الثالث فيدخل شقته ويبدأ في عزف نفس الدور الذي كان يغازلها به إلي أن تنتهي من مسح باقي الأدوار، كان يعتبر هذه الموسيقي مكافأة لها علي مهمتها الشاقة هزيلة الأجر والتي كانت بعض الجارات يفاصلنها في دفعه، تشتكي بشري له كثيرا من مضايقات الجارات فيقول لها: "يا بت سيبك دي غيرة حريم" ثم "تعالي أسمعي الحته دي" ويستكمل العزف. بعد موت الأستاذ شكري وانتشار الحكايات في الحي عن مشروعه انتاب الفضول ذلك الصغير المولع بالموسيقي، فأصبح يتسلل إلي شقة الأستاذ يحرك لسان الباب بمسطرته المدرسية ويفتح الباب ليدخل إلي عالم الموسيقي ويجرب جميع الآلات، بينما ظلت بشري تظن أن روح الأستاذ تغازلها من خلف الباب.