د. رمسيس عوض حين تنتهي من قراءة هذا الكتاب "محاكمات فنية وأدبية وفكرية محاضر تحقيق أمام محاكم أمريكية "المكون من جزءين، والبالغة صفحاته ألفي صفحة، والصادر عن المركز القومي للترجمة مؤخرا، ترتسم أمامك أكثر من علامة تعجب وإعجاب ، حتي أنك لا تستطيع أن تخفض حاجب الدهشة إلا قليلا.. لماذا؟ أولا: ثمة جهد ذو قيمة مضافة بذله د. رمسيس عوض، مترجم الكتاب، يتبدي في صبره ودقته وإحتماله علي نقل هذا العبء الثقيل علي النفس التي تتصدي - في كل زمان ومكان - لإزهاق روح حرية التعبير، ومقاومة فكرة القمع الفكري في حد ذاتها، وهو أستاذ الأدب الإنجليزي في كلية الألسن جامعة عين شمس، المشهود له عبرأكثر من ستين كتابا بين التأليف والترجمة والتعريب، بالمساهمة الجادة في تشييد جسور عديدة بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية، بانتخاب نماذج دالة من الفكر الغربي إلي لغة الضاد، منها: "شكسبير في مصر"و" برتراند راسل الإنسان والمفكر السياسي" و" اليهود والأدب الأمريكي المعاصر" و"معالم التفتيش" و" توفيق الحكيم الذي لا نعرفه" و"أدباء روس منشقون" الذي توقع فيه انهيار الاتحاد السوفيتي قبل حدوثه بفترة،وموسوعته الببلوجرافية للمسرح المصري 19001930 واتجاهات سياسية في المسرح المصري قبل ثورة 919، الي جانب الكثير من الترجمات لأشهر مفكري وأدباء الغرب، وثمانية كتب عن معسكرات الاعتقال النازية، وخمسة كتب عن محاكم التفتيش، وغير ذلك من المؤلفات ثانيا: أن هذا السفر الضخم يضم وثائق مختارة لمحاضر تحقيق أمام لجان تحقيق أمريكية، تحاكم وتدين وتقهر وتنكل بمئات من مشاهير كتابها ومفكريها ومثقفيها وفنانيها، من أبرزهم الكاتب المسرحي أرثر ميلر، وراسل، وبريخت، وبروإيليا كازان، وروبرت تايلور، وجاري كوبر، والموسيقار هانز ستلر، وغيرهم، فتشت في ضمائرهم بكل توحش، وألقت بهم في غيابات السجون والمعتقلات لمجرد الشبهات بتهم التعاطف مع الفكر الماركسي وإعتناق الشيوعية، في فترة يصفها الدكتور بأنها"فترة مشينة ووصمة عار في جبين الأمريكان الذين يتشدقون بالحرية والديمقراطية وهم أبعد ما يكونون عنها، علي حد تعبير المترجم "فبعد هزيمة المحور (إيطاليا وألمانيا واليابان) أمام الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وروسيا)، تعاطفت الشعوب الأمريكية وبريطانيا مع الشعب الروسي عقب مذبحة ستالينجراد التي أوقفت زحف هتلر ومنعته من احتلال روسيا وكان الثمن حوالي 20مليون قتيل من روسيا فقط، ما أكسب تعاطف الغرب مع الشعب الروسي، ولكن فور انتهاء الحرب العالمية الثانية تبدلت المشاعر المتعاطفة في أمريكا وإنجلترا بسبب الهستيريا التي أثارها "مكارثي" ضد الشيوعية، وتم اتهام العديد من رموز المجتمع الأمريكي بالشيوعية سواء بالحق أو بالباطل، وبعضهم سجن وأجريت تحقيقات معهم من جانب الكونجرس الأمريكي شملت كبار المثقفين والأدباء والمسرحيين والممثلين في أمريكا" واسألوا الواقع فما هي هذه "المكارثية" التي أججت النار في المجتمع الأمريكي منذ العام 1950 والتي يقول المترجم إنها" حتي وقتنا الراهن لم تلفظ أنفاسها أو تسلم الروح "تنتسب "المكارثية" الي "مكارثي" وهو "صاحب الحملة الشعواء التي شنها علي الشيوعية فقد امتدت منذ الخمسينيات لثلاثة عقود متتالية، حتي بعد أن ووري مكارثي الثري وأصبح مضغة الأفواه"أطلق مصطلح "المكارثية" علي قمع الفكر والأدب والفن في أمريكا، وبدأ استخدامه في 9 فبراير 1950، وهو اليوم الذي ألقي فيه السيناتور"جوزيف د مكارثي خطابا في ولاية فرجينيا علي جمع من أعضاء الحزب الجمهوري، وفيه اتهم مكارثي وزارة الخارجية- جزافا - بأنها تضم مائتين وخمسة من الشيوعيين الخونة، وهاجم إدارة الرئيس الأمريكي ترومان متهما العناصر الشيوعية في الخارجية بالتراخي وبأنها سلمت الصين عام 1949 لقمة سائغة في فم الشيوعيين، فضلا عن أنها قامت بالتفريط في أوروبا الشرقية وتسليمها للاتحاد السوفيتي السابق، كل هذه التهم العشوائية دون دليل، جعلت المكارثية تعني الصاق تهمة الشيوعية زورا وبهتانا بخصوم مكارثي الشخصيين، وبمرور الوقت أصبحت المكارثية تقترن بسياسات أمريكا الداخلية والخارجيةيعرض كتاب "محاكمات فنية وأدبية وفكرية محاضر تحقيق أمام محاكم أمريكية" عشرات المحاضر والتحقيقات، مع رموز الإبداع في أمريكا من مواطنين ووافدين وننتخب ما جري مع الكاتب الشهير"آرثر ميلر"، صاحب المكانة الأدبية والفنية العالية، بأعماله الشهيرة"موت بائع متجول، والبوتقة، وبعد السقوط" وغيرها أورده المترجم في 70 صفحة، حين اجتمعت لجنة التحقيقات في الساعة العاشرة من صباح يوم 21 يونيه 1956: شيرر: هل تري أنه ينبغي علينا أن نسمح للشيوعيين في هذا البلد بممارسة العنف البدني للاطاحة بالحكومة قبل مقاضاتهم وتقديمهم الي المحاكمة؟ميلر: لا ياسيدي أنت تنسب الي ما لم أقلشيرر: لا أستطيع أن أستنتج غير هذا من أقوالكميلر:إنك لا تفرق بين الدعوة والفعل، إن قانوننا يقوم علي الاتيان بالافعال ولا يقوم علي الأفكار ، كيف تعرف الافكار فكل شخص في هذه الحجرة قد تخطر علي باله أفكار من مختلف الأنواع تقع تحت طائلة القانون إن تم وضعها موضع التنفيذهذا النموذج يتكرر كثيرا في التحقيقات مع ميلر ، ويتكرر أكثر في كافة المحاكمات التي تنتزع الاعترافات انتزاعا، وتكيل الاتهامات جزافا، لتنكل بالمشاهير من أهل الفكر والابداع إبتزاز مارلين مونرو من المفارقات الدالة في محاكمة "ميلر" أنه في عام 1956 حدث أن استدعت "لجنة أولك" وهي اللجنة النيابية لمناهضة الأنشطة المعادية لأمريكا، يقول" قبل مثولي أمام هذه اللجنة بيوم واحد قال لي رئيسها إنه علي استعداد لإلغاء التحقيق معي، لو أن مارلين مونرو قبلت الظهور في صورة معه"وعندما رفض ميلر الخضوع لهذا الابتزاز الرخيص اتهمه هذا الرجل بأنه يمثل خطورة علي البلاد، وقد حضرت مارلين مونرو جميع التحقيقات مع زوجها ميلر دون أن تبالي بما يتضمنه ذلك من أخطار في 17 يونيه 2000 كتب آرثر ميلر مقالا نشرته صحيفتا الجارديان والاوبزرفر جاء فيه أنه لم يكن ليفكر في تأليف مسرحية عن محاكمات الساحرات في عام 1926 لولا أنه رأي بنفسه مظاهر القمع المكارثي الذي ابتليت به أمريكا في أواخر عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وهي مظاهر أصابت جيلا بأكمله بالشلل واقتلعت منه جذور الثقة والتسامح نتيجة الحملة الهستيرية الضارية علي الشيوعية التي شنتها السلطات الأمريكية علي المشتبه في ولائهم للمذهب الشيوعي، وتحولت الحملة الي صراع آيديولوجي يهدف في المقام الأول الي النيل من الافكار الاشتراكية والشيوعية واتهام كل من يؤمن بهما بالعمالة للاتحاد السوفييتي ويأسي ميلر لأن الولاياتالمتحدة أصبحت خاضعة لسيطرة اليمين المتطرف، الذي توجس شرا من الأجانب، ويذهب الي أنه ألف مسرحية "البوتقة" بهدف تصحيح هذه الموازين المختلة ويتعجب من التغير المفاجئ الذي طرأ علي الجمهور الأمريكي فمنذ ما لا يزيد علي ثلاثة أو أربعة أعوام كان هذا الجمهور يتهلل بشرا وفرحا عندما يري ستالين في نشرة الاخبار السينمائية يستعرض الجيش الأحمر ويحييه، غير أن أصدقاء الأمس ما لبثوا أن تحولوا إلي أعداء اليوم، والأغرب من ذلك أن الألمان الذين كانوا أعداء الأمس أصبحوا في نظر كثير من الامريكان شعبا طيبا، يقول ميلر أيضا :إنه يستحيل تخيل الجو الخانق الذي ساد أمريكا في فترة المكارثيةتكشف المحاكمات أن ميلر عافت نفسه الاشتراك في خيانة زملائه فضحي بكثيرمن فرص الثراء السريع من وراء الشركات السينمائية في هوليود من أجل الاحتفاظ باستقلاله وعزة نفسهويضيف ميلر إنه لم يمر وقت طويل علي انتهاء الحرب العالمية الثانية حتي اكتشف احتقار المسئولين السوفييت لحرية الأدباء والفنانين ولكنه لم يكن يتصور أن هذا القمع الثقافي سوف ينتقل بمثل هذه السرعة من روسيا السوفييتية الي الولاياتالمتحدة، الأمر الذي اضطر الامريكان الي الرحيل عن أمريكا الي انجلترا، وهو الأمر الذي يمثل عارا علي بلاد تفخر بازدهار الحرية والديمقراطية فيها شجاعة اينشتاين في واحدة من الشهادت علي تلك الفترة التي ألقت بتداعياتها علي الراهن، جاء في الكتاب نص رسالة عبقرية القرن العشرين"ألبرت اينشتان" الذي حاكمته لجان التحقيق الأمريكية أيضا، في رسالة كتبها لأحد أصدقائه:" إن المشكلة التي تواجه المثقفين في هذ البلد(أمريكا) جد خطيرة فالسياسيون الرجعيون نجحوا في بذر بذور الشك في نفوس الجماهير بشأن المثقفين وجهودهم بالتلويح أمامهم بالأخطار الخارجية التي تتهددهم، وبعد الذي أصابوه من نجاح حتي يومنا الراهن نراهم الآن يمضون قدما لحظر حرية التعليم وتجريد كل من لا يظهرون فروض الطاعة والولاء من مناصبهم بغية تجويعهم، ويتساءل اينشتاين:" ماذا ينبغي علي النخبة المثقفة أن تفعل كي تدرأ عن نفسها هذا الشر؟ يجيب :" بكل صراحة لست أري حلا لهذه المشكلة غير الطريق الثوري الذي اتبعه "غاندي" في المقاومة السلبية، ان كل مثقف تستدعيه لجنة التحقيق أمامها يحب عليه أن يرفض الادلاء بشهادته أي أن يكون علي استعداد لدخول السجن، وباختصار مواجهة الدمار الاقتصادي والتضحية بسعادته ورفاهته الشخصية من أجل رفاهة بلاده الثقافية" ويلقي إينشتاين القفاز في وجه المحاكم الأمريكية حين يقول في رسالته التي أراد ألا تكون سرية أو خاص انه "من العار علي مواطن شريف أن يخضع لمحاكم التفتيش التي تنتهك روح الدستور"وهكذا تتواصل في هذا الكتاب الوثائقي ترجمات لعدد كبير من التحقيقات التي أجريت في الفترة من عام 1983 حتي عام 1951 مع عدد غفير من أبرز رجالات الفكر والأدب والسينما والمسرح الأمريكي بسبب الاشتباه في انتمائهم الي الحزب الشيوعي ، ويؤكد المترجم أن هذا الكتاب يمثل صفحة مشينة سوداء في تاريخ الولاياتالمتحدةالامريكية، يكفي أن نعرف أن الرئيسين الامريكيين السابقين"ريتشارد نيكسون" و" رونالد ريجان" اشتركا في القيام بجانب من مجريات هذه التحقيقات، وأن المخابرات الامريكية ساورتها الشكوك بشأن ولاء كل من "إليانور" قرينة الرئيس "روزفيلت" وأبي القنبلة الذرية عالم الفيزياء"أوبنهايمر" لأمريكا، حتي ندرك مدي ما وصلت اليه هذه البلاد في تلك الفترة من انتهاك لحرية التعبير.