علي مر العصور تضع الدول والمجتمعات اعداء افتراضيين لها داخل البلاد، تتسلل إليهم وتنتصر عليهم وهذا يبدو مشروعا،لكنها في طريقها إليهم يمكنها أن تُنكل بقدر ضخم من الأبرياء من خيرة أبنائها يمكن أن يكون من بينهم من هم دُرة فخرها ومجدها وذلك بسبب عقول بعض رجالها المصابين بهوس الإخلاص الأعمي للسلطة والنظام. لجنة مكارثي هي لجنة تحقيقات هامة من الكونجرس الأمريكي في محاكمة واضطهاد ضال لكبار الكتاب ،والمفكرين والفنانين الأمريكيين بسبب معتقداتهم وخاصة انتشار الشيوعية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين بدت الشيوعية وكأنها خطر علي أوربا وأمريكا وخاصة أن الأخيرة كانت تصعد حينها وكأنها تمر إلي مرحلة التمدد الدولي. تكونت اللجنة تحت إشراف السيناتور العتيق بمسمي لجنة الأنشطة غير الأمريكية كان الرجل وهو احد برلمانيي وسياسيي أمريكا عدوة للعقل وكان يتحرك بدافع وطني مفتعل وخادع يجعله يري في نفسه وطنية أكثر من الآخرين كانت تلك اللجنة بمثابة تهديدٍ لخيرة مبدعي أمريكا والذين أضاءوا وزينوا تاريخها فيما بعد، وحربا علي العقول والتفتيش الأمني بداخلها وكانت مجرد إثبات التهمة علي الأديب أو الفنان بمثابة إنهاء لحياته وتدمير لاستقامة مستقبله وكان آرثر ميللر أحد من أصيبوا بجراحها. اجتاحت المكارثية مناخ الولايات وعربد نوع جديد من التفتيش الأيديولوجي للجنة المشهورة ووضع الأكثر ثباتا للاشتباه في السجون ،لفقت التُهم وأعدت القوائم السوداء وأُجبر الضعاف علي الخيانة ,وبما ان أوربا والعالم حديقة خلفية لأمريكا فقد حدثت تطورات مماثلة لكنها أقل في بلدان ذات صلة. كان المبدعون أول وآخر الضحايا ،وبما أن الكثير منهم لا يسمحون باستغلالهم فقد تمردوا ضد البلاهة الجديدة للمجتمع الرأسمالي الوليد في الخمسينات والذي قاد هذه الحرب المشبوهة ضد الأدباء وقد كانت نهاية الكثير منهم تراجيدية. لقد كانت المكارثية حربا باردة لا معقولة علي عقول أمريكا ومبدعيها لدرجة أن بعض توصيف التهم قانونيا يبدو مجازيا وأيضا ميتافيزيقيا كالتعاطف مع الشيوعية أو نشاط غير أمريكي فقد كانت مهزلة حقيقية لا يمكن تفاديها لدرجة أن بعض المبدعين لم يستطيعوا المواجهة وكانوا بالغريزة وحدها يحمون أنفسهم بالانزواء أو الافتعال تفاديا للموجة الشرسة لقد بدا أن الفكر والأدب والفن معادي للسياسة وتلك ادعاء راسخ حتي الآن عندما يقفل الطريق في وجه العقل والحوار ولم يكن ذلك صحيحا فالمثقف كما يري سارتر في تلك الفترة محق دائما في صراعه مع مجتمعه إلا أن ما يمكن أن يكون محزنا هو تلك التجربة المريرة لرجل في مكانة "آرثر ميللر"جراح الدراما الأمريكية والذي لم يسلم من تلك اللجنة المخزية والتي زرعت في قلبه وعقله رعبا وإرباكا شديدا وجعلته يكتب مسرحية "ما بعد السقوط "بعد انقطاع دام تسع سنوات فكيف يمكن لرجل خلاق كتب "وفاة بائع متجول" و"الزجاج" و"الثمن" من أن يناله طرفا من ثمن اضطهاد المكارثية الغبية اللعينة وأن يقف حائرا في حاله تشبه ضياع الطريق من بين قدميه وتسلل الحياة من بين يديه ليقول لنا "أنا لا أعرف لماذا أبتسم ". إن ميللر يعيد توثيق عار الحقبة العمياء من خلال إسقاط عبر مسرحيته "ساحرات ساليم " في عمل رائع يعالج فيه قضية محاكم التفتيش ضد الإنسانية في عقول أبناء اسبانيا واتهامات بالهرطقة والكفر. إن ميللر يتهم السلطة المهتزة والمذعورة ويدينها أخلاقيا بالرِدة حيث يقول علي لسان إحدي شخصياته "إنها لم تكن تدافع عن شيء أو تؤيد شيئاً أو تتهم لقد كانت موجودة فحسب مثل شجره أو قطة "ورغم أنها ليست متورطة في شيء لكنه يشير في علامة إلي جريمة وإدانة في موتها لغائب ما. ربما سقطت الشيوعية بالطبع ليست بفضل فقاعة مكارثي الوطنية لكن ما بات مؤكدا هو أن مكارثي ولجنته هبطا الي مقبرة التاريخ في هزيمة أخلاقية وبقي ميللر خالدا في تاريخ أمريكا كنجمه متلألئة تشع نقاء بشريا وإنسانيا مشكلا أروع الحلي المسرحية وكيف لا وهو لا يري في تلك اللجان إلا أناسا ينظرون الي البشر علي أنهم قطعة لحم.