ربما لا حيلة في الموت. لكن الموت بزيارته أنور عبد الملك لا حيلة له في تغييبه. فأستاذ علم الاجتماع السياسي الذي عملت مساعداً له عامين (2004-2006) كأنما كانت رحلته الفكرية والعملية تحدياً قدرياً لكل ما هو عدمي ويهدد الإنسان في تحرره وقيمته. كأنما كنت علي موعدٍ مع التاريخ في ذلك اليوم من صيف 2004، حين التقيته للمرة الأولي في منزله لأعمل معه مساعداً علمياً. كانت "ريح الشرق" تسكن أبهاء منزله، بين صورٍ لكونفوشيوس، وسجادةٍ صغيرةٍ تنتمي للفن الإيراني معلقةً علي حائط، ثم التمثال الصغير من الجص الابيض لإخناتون، الموحِّد الأول في الحضارة الفرعونية. كأنما كانت هذه العلامات الصغيرة إشارات إلي التوجه الفكري المؤصّل في كتاباته التي سأتعرف عليها لاحقاً بينما أعمل معه فترتين يومياً. من الثامنة صباحاً إلي العصر، ومن المغرب إلي ما بعد العشاء. مازلت أذكر صور رواد نهضة مصر في تاريخها الحديث، المعلقة في ممر البيت وغرفة المكتب. محمد علي ورفاعة الطهطاوي وعبد الناصر. هذه الصور لم تكن منفصلةً عن هذه الحياة الفكرية والعملية التي تحاول التأصيل لوجود مصر في محيطها العربي والإفريقي والإسلامي لتتسع دوائر تقاطعها الحضاري إلي العالم،فثمة منطلقات أساسية ودعائم فكرية كانت هي التي تصوغ الإنتاج الفكري للدكتور أنور رحمه الله، وكانت مصر في قلب هذه المرتكزات. ولعل هذا قد رسخ بصورةٍ أساسية الخط العام لمؤلفاته الفكرية ،وكان مفهوم الثقافة الوطنية اللذي ظل منشغلاً به طوال رحلته الفكرية يعود إلي مرحلة صياغة الخط العام للحركة الوطنية المصرية من كِتاب - أو فلنقل من بيان - شهدي عطية الشافعي (نريد حزباً من نوع جديد) الذي كان ركيزةً فكرية ينطلق منها في مؤلفاته. شهدي عطية نفسه الذي كانت صورته أول ما طالعني في بيته تحت الأباجورة هادئة الضوء في الصالة، والتي كان يغضب في حال لمسها أي شخص محركاً إياها من مكانها. لم يكن في حياته ما يخضع للصدفة أو يخرج عن صرامة اتساقه مع أفكاره. مع الأيام كنت كأنما أكرر قصة أستاذ الفلسفة الرائد عبد الرحمن بدوي مع أنور عبد الملك. وإن لم أنل من المعرفة والعِلم سوي أقل القليل من كثير الراحل الكبير. فقد كان د.بدوي عصبياً في التعامل حول القضايا العلمية. لا يرضي بأبسط الأخطاء. عاش راهباً بمحراب الفكر زاهداً في كل شيء. وكان عبد الملك تلميذه الأثير، الذي يقسو عليه الأستاذ أحياناً من أجل تكوينه العلمي. كذلك كان يفعل معي د.أنور إن قسا، يفعل ذلكلمصلحتي، ولأكتسب جَلَد تحصيل العلم وعدم التهاون في ذلك التكوين. ظل طيلة حياته مخلصاً لهذا التوجه. لم أره يوماً يفكر في غير مصر. وجاهد بكافة السبل ليُرسخ مفهوم اللُّحمة الوطنية وإعلاء قيمة الانتماء عبر مؤلفاته ومعاركه الفكرية، وما لا يعرفه الكثيرون حول عبد الملك أنه كان حافظاً أجزاءً كبيرة من القرآن الكريم عن ظهر قلب. كان يصوم الكثير من أيام شهر رمضان، احتراماً لإخوانه المسلمين في مصر ومشاركةً لهم في مشاعرهم الروحية. لم أرَ في حياتي قبطياً متسامحاً إلي هذا الحد. كنت ألتقي في صالونه سعد زهران، وضياء رشوان، وابنة أخ الشهيد المناضل شهدي عطية الشافعي والمفكر الراحل محمد يوسف الجندي ومحمد سيد أحمد، وغيرهم من وجوه العمل الوطني في مصر. وكان معنا حاضرون غائبون منهم عادل حسين ونبيل الهلالي ولطيفة الزيات وغيرهم. ربما لم يتسنَّ لشاب في عشرينيات عمره أن يطلع علي كل منابع ومصادر الفكر والعمل الوطني مباشرةً كما قيض لي. في الثامنة صباحاً كنت أتلقي دروسي الفكرية ببيته وهو يشد قامته أمامي عاقداً يديه خلف ظهره. وفي مركزها إيمانه العميق بضرورة تجميع القوي الوطنية المؤمنة بالقومية العربية. أكد لي أن الشرق عائدٌ وصاعد وكنت أشاكسه بأن الغرب مازال يركز في يديه الثروات والقرار السياسي فينفعل ويعاقبني بعدم شرب القهوة معه أو أن نفطر معاً حتي أقرأ كتاباً كاملاً من مكتبته سيمتحنني فيه لاحقاً. من هنا تعرفت إلي (دراسات في الثقافة الوطنية) و(نهضة مصر) و(الشارع المصري والفكر) و(ريح الشرق). كان أهم ما يشغله هو نهضة مصر، وتغير مكانتها في العالم الحديث المواجه بالعولمة وأحادية القطب، بينما كان يبشِّر بعالمٍ متعدد الأقطاب، خارجاً علي إرادة مركزية الهيمنة في الغرب. دافع عن الخصوصية الحضارية للمجتمعات ومصر في طليعتها. وفي عام 2006، وبينما كانت مصر في خِضم تحولاتها باتجاه (ثورةٍ ما) قادمة كما كان يتنبأ دوماً قال لي : إن نهضة مصر قادمة. هذه ضرورة تاريخية وفعل يوجد لنفسه الأرضية الممهدة من الآن. كل هذا الفساد الذي تراه هو المُحرِّك الأساسي للثورة وستحدث. كنت أراه متفائلاً وكان يراني غير قارئ للتحولات. وعندما اندلعت ثورة 25 يناير اكتشفت كما كان محقاً. لا أتصور حتي هذه اللحظة أنني أكتب في رثاء أنور عبد الملك. كان بشوشاً منطلقاً نشيطاً لا يكل عن العمل، حتي أربع عشرة ساعة في اليوم، حين أبدو أنا عجوزاً مجهداً بينما أحاول ملاحقته، وهو يلقنني دروساً أدين لها بالفضل في تكويني الثقافي حتي اليوم عن المثقف الوطني ودوره في تحرير مجتمعه، الهوية، والخصوصية وعوامل التماسك القومي والاجتماعي لمصر وقيمة المواطنة. كان سخياً معي في كل شيء. في العلم الذي منحه لي، في مكتبته التي فتح لي أبوابها للاستعارة والقراءة، في الحكمة التي تشربتها منه وفي القيم التي علمها لي وفي كل شيءٍ آخر. كان كريماً وسخياً علي كل المستويات، ويعاملني كابنه. في "بلاس دي إيتالي" بباريس حيث عشت معه شهوراً كان يحاول تفكيك الخطاب الاستعماري للغرب من قلب الغرب نفسه! يحاول التأصيل لتوجه فكري وثقافي وطني وعالمي أيضاً. كنا نعمل في باريس حتي الظهيرة. قبل أن يرفع وجهه الباسم البشوش نحوي ويسألني: (تعبت؟ لا يهمك .. انزل وشاهد باريس). يفاجئني بتذكرة مسرحٍ أو عرض أوبرالي حجزه من أجلي. وكثيراً ما اصطحبني إلي السين. نسير ونتناقش حول الثورة والوطن والحزن. عاش وحدةً قاسيةً وهو يسبح ضد التيار المعولم متسقاً مع قناعاته. رافضاً المشاركة في محفل الثقافة الرسمي زاهداً في مكتسباتها ومنحازاً إلي القيمة وإن كان ثمنها فادحا. من هنا رأيته حزيناً في هذه الوحدة الفكرية التي يعيشها كراهبٍ مخلص. وتمنيت ألا يغادر الحياة وحيداً كأستاذه عبد الرحمن بدوي. غير أن تقاطع دوائر الحياة يلحقه تقاطع في المصائر أيضاً! لم أكن سوي ظلٍّ صغيرٍ له. شرَّفني يوماً أن أعمل مع هذا العالم الجليل الذي لا أحسب أن الموت قادرٌ علي تغييبه. وبينما أكتب هذه الكلمات أشعر بأن الموت أقرب إليَّ من أن أعي حقيقة موته.