وقف يشاهد المنظر عن قرب، ذلك الشاب الواضح عليه علامات الضعف والشقاء.. والشر أيضا، ينظر من خلف نافذته الفقيرة »الموجودة« تحت الأرض في ذلك الجراج البائس، يقاوم حتي يفتح عينه المغلقة من كثرة الإرهاق وتقطع النوم. كان من الصعب أن يتجاهله بعد أن أوقظه صوت سقوطه المدوي.. ظل يشاهده من دون أن يكترث بالمدة التي مرت عليه وهو نائم.. فمفعول المخدرات يفقدك دائما الإحساس بالوقت.. كان الحديث يستحق المشاهدة.. شاب يسقط امام النيابة، يلهث من الإرهاق.. كأنه يركض من سنين. لكن لحظة سقوطه كانت أكثر من مجرد سقوط، كانت انهيارا.. قاوم ليستند إلي الحائط المواجه للبنابة.. لم يظهر علي وجهه الوسيم علامات الخوف.. لكن ألم.. ألم شديد.. وبرغم كل شيء. لم تستطع عينا الشقي ان تتجاهل ثيابه الأنيقة ولاساعته الثمينة.. لأنهما - في المقام الأول- تعودتا علي هذه المهمة القائمة. بدا وكأنه يفتح أزرار قميصه بصعوبة.. وبدأ يتحسس شيئا ما في صدره.. كان يتنفس بمعاناة وسرعة.. ويتصبب عرقا يكفي ويفيض عما يحتاجه أربعة عدائين لسباق بعيد. لم يعلم الشقي تحديدا ما به، ولم يهتم كثيرا ليعرف، لم تكن لتحدث فارقا بالنسبة له ان كانت أزمة أو كان إجهاداً أو حتي لعنة من السماء، كل ما أيقنه هو انه ليس في حاجة ليضيع يوما آخر في تلك المحاولات اليائسة لقنص فريسة جديدة. فقد اتت الفريسة بمحض إرادتها لشباك العنكبوت مجهدة وجاهزة للالتهام. »لازم كل حاجة تخلص بسرعة.. وهدوء« قالها الشقي وهو يضغط علي مطواة بيده لتنفتح. ارتدي سريعا ما قابله وخرج يفكر في كمية المخدرات التي من الممكن الحصول عليها.. يفكر في الطعام الذي افتقد حتي مذاقه لثلاثة أيام متتالية.. يتخيل منظر النقود الوفيرة في حافظته الأنيقة.. غطي رأسه بجزء من قميصه ووضع يده في جيبه ليخرج المطواة في هدوء.. لكن شيئا ما اعترض خطته المعتادة، شيئا غريبا لم يعتده الشقي في تلك اللحظات المهمة من حياته الدامية.. كانت صدمة عندما اكتشف ان ذلك الشاب ينزف بغزارة من صدره.. وكثيرون يمرون بجانبه من دون أن يقف أحد لنجدته.. بل انهم يركضون ايضا، لكن من ماذا؟ وما الذي حدث له؟ ولماذا يتصرف بهذه الطريقة؟ أسئلة لم تجد أي رد في رأسه المجهد، لكنه قرر إلا يلتفت لما يحدث إلا بعد أن يظفر بغنيمة اللحظة.. فتقدم ناحيته.. بهدوء ويسر.. »هيه القيامة قامت؟« قالها الشقي للشاب المصاب باستهتار »تقريبا«.. قالها الشاب المصاب بصعوية ثم أكمل »قيامتهم.. مش بتاعتنا« قالها بإجهاد محاولاً أن يرسم ابتسامة علي وجهه »انته قصدك أيه؟« »نايم بقالك كتير؟« قالها الشقي وهو ينظر حوله ليتأكد من أن أحدا لايراقبه ثم هز الشاب المصاب رأسه متفهما ثم جاهد ليخرج بذراعه اليمني شيئا من جيب بنطلونه الخلفي. »مافيش أمل، الطلقة وصلت للرئة، قول لأمي.. إني مت شهيداً..« ثم أكمل بصعوبة شديدة وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة. »وإني بحبها« قالها ورمي حافظة نقوده بصعوبة للشاب الذي أمامه الذي شاهد بعض رجال الشرطة المتحفزين، يتجهون ناحية المكان ويطلقون بعض الأعيرة النارية فأمسك الحافظة بسرعة و اختفي خلف كشك سجائر بجانب العمارة ليشاهد عن قرب مايحدث »جت في صدر أمه ياباشا تماما.. الله ينور« قالها مجند شرطة وقد وضع قدمه علي كتف الشاب الذي فقد من دمه مايكفي ليفارق الحياة، ثم دفع الشاب بقدمه بعنف لتصطدم رأس الشاب المحتضر بالأرض الذي سقط شبه مغشي عليه. »موت ياروح أمك... موت«. ثم أكملت المجموعة السير وفتحت النيران في اتجاه الشباب الفار... عاد الشقي الميت من أجل الساعة الثمينة، لكن الصدمة أن الحياة قد رفضت أن تفارق جسده قبل أن يرسل آخر كلماته والتي بدت للشقي وكأنها مجرد حالة هذيان لا معني لها. »أنا آسف.. إتأخرنا.. عليك« قالها بصوت متقطع الشاب وهو غارق في دمه والدم يسيل من فمه. »بس خلاص، للظلم نهاية« ثم نظر ناحية الشقي الذي تجمد من الذهول وهو ممسك بساعده وأكمل »أنا حاربت.. عشان لازم أحارب« ثم تحولت عيناه بشكل غريب لتدق أجراس الموت ويزيد الشحوب في وجهه وتترك يده حبل الحياة بغير رجعة. لم يفهم الشقي شيئا، كان الدم قد لطخ يده.. نظر ليده بذهول، مع انها ليست المرة الأولي التي تطلخ بدم برئ، جري مسرعا لغرفته، ظل مجمدا أمام الصنبور المفتوح.. لم يستطع أن يمنع عينيه من أن تراقب جثة الشاب الغامض، حتي وهو يغسل يده.. الذي مالبث أن التف حوله بعض الشباب وسط تكبير وفرحة شديدين زادا الأمر دهشة.. »فيه إيه بالظبط؟« قالها وهو يغسل وجهه وعينيه من ذلك الدخان الغريب المنتشر في الجو ومن أثر المخدر الذي بدا وكأنه امتد ليخلط قسوة الواقع بوهم الخيال. أخذ يفكر فيما حدث خلال الدقائق السابقة. وفي كلمات ذلك الشاب الغامض.. وتلك الحرب التي تحدث عنها.. ولم تحدث إليه وكإنه صديقه منذ سنوات..؟ ولم حمله الآخرون وهللوا؟ أخذت الأسئلة تفرض نفسها بدون رحمة.. وكانت المرة الأولي التي يشعر فيها بخوف شديد.. بدون أي سبب واضح.. لكن الأكيد بالنسبة له أن شيئا مايحدث.. وقد بدأ يحدث الآن. بعد ان نظف الساعة من بقايا الدم.. فتح حافظته ليجد بعض المال وكروت إئتمان وعضوية في أغلي نوادي القاهرة.. نظر لبطاقته الشخصية.. فوجده طبيبا في العقد الثالث من عمره.. يسكن في واحد من أرقي أحياء مصر.. مما دفعه ليسأل نفسه سؤالا جديدا بصوت عال مليء بالحيرة: »إيه اللي جاب الواد ده هنا؟« ترك مسكنه المزري القابع تحت الأرض وهم بالخروج للسطح، أخذ يبحث عن مطعم ليشتري منه ما يسد جوعه.. لكن الحياة بدت وكأنها توقفت.. خلت الشوارع من المارة والسيارات إلا قليلا منهم.. مرت حوالي نصف الساعة من البحث والمشي حتي وجد أحد المطاعم وقد رفض أن يغلق أبوابه مثل المطاعم الأخري.. طلب أغلب مايمكن شراؤه وجلس ينتظر وجبته القيمة، لم تمر أكثر من خمس دقائق عندما بدأ الشاب في سؤال صاحب المطعم المشغول بمتابعة الأخبار »هو فيه إيه في البلد؟« »انته مش من هنا ولا ايه« قالها صاحب المطعم الصغير بذهول »كنت في المستشفي ولسه خارج«.. »انته ماتعرفش ان البلد قام فيها ثورة من 3 أيام« »ثورة؟« »ايوه يابني ثورة مستغرب ليه؟.. دول جنبنا هنا في التحرير« »ميدان التحرير؟.« »ايوه أمال إيه.. دول ملايين يابني« »تمام«.. »هو ماحدش جابلك سيرة في المستشفي؟«. »لامافيش حد قال حاجة« »طاب خلي بالك وانته مروح عشان في شباب كتير ماتوا« قالها البائع للشقي وأعطاه كيس الطعام، لكنه لم يرد بكلمة واحدة... دخل أحد الأبراج واستقل المصعد للدور الأخير.. قصد سطح البناية وجلس يأكل بنهم حتي أنهي وجبته بالكامل.. ثم فتح زجاجة الشراب وأشعل سيجارة وقام ليشاهد ميدان التحرير عن كثب.. الذي بدأ يمتليء بالناس في مشهد غير مسبوق.. ثم جلس علي الأرض يدخن سيجارته في هدوء شديد لم يمنعه من أن يتذكر حاله المؤلم.. وكيف انتهي به الأمر ليخسر دراسته ومستقبله وعائلته بسبب الفقر، ثم تحول الهدوء لهيستريا بكاء بعد دقيقتين فقط.. ويده ورأسه ملاصقان لسور السطح البارد عندما تذكر طفولته المشردة في الشوارع بعد ان أخرجته أمه من المدرسة رغم تفوقه لضيق الحال وعمله في ميكانيكا السيارات لوجوب صرفه علي نفسه وأمه المريضة وعذابه في تلك الفترة الكئيبة. ويردد جملة واحدة »لاد الكلب.. خليهم ياكلوا بعض..« ويبكي بنفس الهيستيريا ثم يتذكر عندما مرضت أمه بالفشل الكلوي نتيجة لمياه الشرب السيئة وعذابه لمحاولة توفير نفقات العلاج لها وبيعه كل ما يملكه قبل أن تموت أمه قبل ميعاد زرع الكلية التي قرر التبرع بها بأسبوع نتيجة لسوء الخدمة الطبية والتلوث والإهمال. ويكرر نفس الجملة. ويتذكر كم المعاناة والانتهاكات من الشرطة التي تعرض لها في حياته..ويكمل »موتوا بعض ياولاد الكلب«. »موتوا بعض« و.. يفقد الوعي لساعة كاملة.. »الشعب يريد إسقاط النظام« أيقظته قوة الهتاف وإصراره، ليقف وبنظرة بها من الحدة والغضب ما يكفي ويزيد عن غضب جموع المتظاهرين البعيد الذي بدأت عربات الأمن المركزي تهاجمه بضراوة ويتذكر كلمات الشاب الذي أعطاه حافظة نقوده.. ثم يفتح الحافظة وينظر لصورة الشاب بغضب، ليرميها بعنف علي الأرض بجانبه وينظر لها بنفس الحدة،... كان يوم الثامن والعشرين من يناير عندما شاهده الثوار تهتف ويسب ويلعن بكل شراسة ممكنة.. كان يرمي الحجارة بتحدي أطفال فلسطين امام غطرسة دبابات الميركافا.. وبنفس دقة قناصة الداخلية.. كان أسدا وسط الثوار.. لو شاهدته لشعرت أن مدرعات الأمن المركزي ترتعش امام جرائه التي لم تهتز. وجهه المجهد وملامح الشقاء القاسية لم تغط علي نظرة التحدي والغضب الواضحة في عينيه. تطلب الأمر ثلاث رصاصات ليسقط.. حملة بعض من رأوه من الثوار وهرعوا إلي مدخل بناية بعيدة عن النار والدخان.. كان ينزف بغزارة.. لم يكن هناك أمل في نجاته. »ماتخافش.. الإسعاف هتيجي دلوقتي حالا« قالها الشاب الأول من الثوار وهو يحاول الضغط علي الجرح لتقليل النزيف. »هروح أدور علي أي عربية إسعاف قريبة« قالها آخر وهو يجري بسرعة »استني.. استني.... عايزك« الشاب المحتضر يمسك بيده المليئة بالدماء يد الشاب الثائر الثاني ويعطيه حافظة نقود ثم يكمل في ألم »لما تلاقي أمه قولها إنه مات شهيد.. وانه.. حارب عشان اللي زيي...« ثم جاهد ليكمل مبتسما محاولا تجاهل الألم... »حارب عشان لازم يحارب« قالها وإتسعت عيناه، ترك آخر نفس في صدره يخرج في صمت.. حملوه علي أكتافهم وسط تهليل وفرحة شديدين.. لم يعرف أحد اسمه.. لم يعرف أحد ذلك الشخص الذي تحدث عنه قبل ان يرحل كل الذي عرفوه. أنه كان كالأسد الثائر وسط الميدان. أطلقوا عليه.. أسد التحرير.