تنسيق المرحلة الأولى 2024.. 27 جامعة حكومية معتمدة في مصر قبل كتابة الرغبات    تحرك جديد من رئيس الوزراء بشأن منظومة استيراد سيارات ذوي الهمم    إسكافي أسيوط: نحمي مهنتنا من الاندثار    ترامب: برأيي إجراء المناظرة مهم جدا.. ويعرض خوض 3 جولات مع هاريس    مدفعية الاحتلال تستهدف قرب الحدود الشرقية بين عبسان الكبيرة والجديدة شرق خان يونس    كولر: أفشة دائما يثبت أنه لاعب اللحظات الحاسمة    راحة يومين للاعبي الزمالك بعد الفوز على زد    عمر الأيوبي: إمام عاشور معندوش رغبة للمشاركة في الأولمبياد    أفشة: الأهلي قدم موسما استثنائيا وجماهيره كلمة السر    بدر بانون يهنئ الأهلي بالفوز بلقب الدوري ال44 في تاريخه.. ماذا قال؟    شاهد| هدف أفشة أمام سموحة في مباراة التتويج بالدوري    التصحيح الكتروني.. التعليم توضح إجراءات فحص تظلمات الثانوية العامة    عدم المساس بأموال الطوارئ.. برج الميزان اليوم 9 أغسطس    بيان مشترك لقادة مصر والولايات المتحدة وقطر: حان الوقت لوقف إطلاق النيران في غزة    «القاهرة الإخبارية»: التغييرات في الحكومة التونسية استكمال لمسار الإصلاحات    سعر الدولار اليوم الجمعة 9-8-2024 في البنوك.. تراجع 10 قروش    خبير اقتصادي يكشف أسرار انهيار البورصات العالمية ونزيف أسواق المال    آخر تحديث في أسعار الذهب اليوم خلال ختام التعاملات المسائية    محافظ كفر الشيخ يُكلّف القيادات التنفيذية بالتواصل المباشر مع المواطنين    قبل تسجيل الرغبات.. وزير التعليم العالي يوجه رسالة للطلاب    معتز الشناوي: لابد من ربط الدعم النقدي بمعدل التضخم السنوي    موقف صادم من الشناوي خلال احتفالات الأهلي بالدوري (خاص)    خالد بيبو: حسمنا لقب الدوري بفوز ثمين على سموحة    بيان مصري قطري أمريكي مشترك بشأن الوضع في غزة    نشوب حريق مروع في سيارة محملة بالأدوية بطريق الخارجة - الداخلة في الوادي الجديد    خاص| لاعب نادي الزمالك السابق: الأجهزة الأمنية تفرغ كاميرات المراقبة    أمطار رعدية قد تصل للسيول.. الأرصاد تعلن حالة الطقس اليوم الجمعة    سيول ورياح مثيرة للرمال والأتربة.. حالة الطقس الأيام المقبلة    الثالث على الثانوية العامة يفوز بسيارة قيمتها مليون ونصف: «خايف أتحسد»    العثور على جثة سوداني أمام البوابة الثالثة بحدائق الأهرام    لبنان.. إصابات طفيفة جراء غارة إسرائيلية على مبنى في بلدة حناوية جنوب البلاد    تدشين منافذ بيع كتب دائمة في محافظة دمياط    معرض المدينة المنورة للكتاب 2024 يختتم فعالياته.. صور    ب «أنا جامد وعلى بالي».. رامي صبري يشعل أجواء حفله في افتتاح موسم جدة (صور)    أفضل وسيلة مواصلات لحضور حفل عمرو دياب بمهرجان العلمين.. «مش هتحتاج سكن»    محمد على رزق: طردت مراتي وابني من المنزل لهذا السبب    أسماء جلال برفقة أمير عيد في عمل غنائي جديد (تعرف عليه)    الغمراوي يكشف تفاصيل أزمة نقص الدواء في السوق    وكيل صحة مطروح يستقبل مدير عام فرع شمال غرب الدلتا بالهيئة العامة للتأمين الصحي    وزير البترول يستقبل المدير الإقليمي لشركة إنرجين اليونانية    فرص عمل للفتيات في وظيفة "أخصائيات تمويل" بالدقهلية.. ننشر رابط التقديم    سقوط مصعد بالدقي.. نقل 3 مصابين إلى المستشفى    حلم جامعة سوهاج يتحقق بإضافة كلية طب وجراحة الفم والأسنان    "الاتيكيت النبوى" لاستقبال الضيوف.. ماذا قال عنه أمين الفتوى؟    خلال أسبوع.. حملة «100 يوم صحة» قدمت أكثر من 10.8 مليون خدمة طبية مجانية    محمد بركات يكتب: السلام العادل    هل الكمادات الساخنة مفيدة لخشونة الركبة؟.. أستاذة روماتيزم تجيب    قرار حكومي جديد.. تعديل ضوابط وإجراءات طرح تراخيص الصناعات الثقيلة    منح دراسية لخريجي مدارس المتفوقين بطب بيطري بنها    خلال أسبوع.. «100 يوم صحة» تقدم أكثر من 10 ملايين و820 ألف خدمة مجانية    الدفاع المدني في غزة: انتشال جثامين 12 شهيدا جراء غارات إسرائيلية على مدرستين للنازحين    رئيس الأعلى للإعلام: الإفراج عن 600 محكوم عليهم يؤكد حرص الرئيس على توفير مناخ إيجابي    أخبار سارة ل80 ألف معلم.. وزير التعليم يستعرض خطة التعامل مع عجز المدرسين (تفاصيل)    قبل حفله بالعلمين.. مشوار الهضبة عمرو دياب من الشرقية إلى العالمية    هبة عوف: الأمانة تغير قدر العبد إلى الأفضل    زوجى رافض الخلفة بعد إنجاب طفلين؟.. وأمين الفتوى: احترمى رأيه    حامد عزالدين يكتب: الدين ليس المعاملة والساكت عن الحق ليس شيطانا أخرس!    اطلقت صورى من زوجى علشان أحافظ على المعاش.. وأمين الفتوى: حياتكم حرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا وزمرة من الموتي
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 02 - 2012

الوجوه تشبه الشمع، سريعا تذوب متي حاولت القبض عليها بين حدود العين، الشوارع الممتدة المغطاة بنتوءات لا أفهم كيف تظهر؟ أو متي تظهر؟ كثيرا ما تمثل عائقا بيني وبين أرواحهم التي أظن أنها لا تحبذ انتظاري.
وقت النداء
كأني أجري بالسيارة المزعجة المتهالكة، راجيا المارة وبقية السيارات أن يفسحوا لنا الطريق، كأنها تتبعني وأنا ألهث منفعلا، فتلهث معي، تنطلق السرينة تحتضن المسافة فيما بين الأرض والسماء، فتنحسر جميع أصوات الحياة، ويبقي صوتها داخل الآذان . سياراتي لها رهبة، لا يسع سياراتهم أمامها غير التنحي جانبا لإخلاء الطريق. قد أصل في موعد مناسب، أتمكن من إنقاذ أحد أبناء آدم، وقد أصل متأخرا، فتبدأ حالة من التوتر والعصبية تنتابني، عندئذ ربما أفقد أعصابي فأبدو كواحد من أهله هذا الذي بلغته متأخرا أهطل الدموع مثلهم، أرتمي في أحضانهم بحرقة، يعتريني نفس الحزن.
وقد يحدث ألا أصل مطلقا، إذ يجيئني النداء أن الحالة استقرت، فابتسم وأعود أدراجي.
هذا عملي، الإسعاف.
زميلي «فرج»دائما يقول:
الأمر لا يستحق كل هذا الاهتمام، هذا مجرد عمل.
أنظر إليه بلا تعليق، لعله يراني مبالغا في تعاملي مع كل تفاصيل عملي، سرعتي حين النداء، لوعتي وأنا إلقم جسم المريض لفيه السيارة، قلقي الشديد علي حياته، مجاهدتي الحفاظ عليها، شدي وجذبي في قسم الطوارئ إذا وجدت تقاعسا عند استقبال الحالة، غير أنه ربما لا يشعر كما أشعر. ماذا أحكي له؟ سيرجح في عدم اتزان العقل. لو يشعر بأن سيارتنا تقل في ذهابها وإيابها مئات الأرواح، التي تدفع السيارة للحاق بروح ما، مئات الأرواح التي تصطف علي جانبي طريقنا وهي تدعو لنا بالتوفيق. لعله لا يلاحظ هالتين من السواد تحيطان بعيني، فأنا في الواقع لا أنام، ألمحهم متناثرين حولي في كل الأمكنة، الصالة، المطبخ، الحمام، غرفة النوم. لم أفكر في طريقة للخلاص منهم بقدر ما كنت أفكر ما الذي يدعوهم للالتفاف حولي؟! الغريب أنني بعد فترة، لم يعد يعنيني بقع الدماء التي تطول ملابسي من أفواههم وأعضائهم وصدورهم، حيث أحملهم فوق المحفة وأدلفهم داخل بطن السيارة، لم أعد أكترث لتنظيف جوفها من اللون الأحمر، المنتشر بعشوائية علي جدرانها البيضاء، أقصد التي كانت بيضاء. كل ما كان يهمني في الحقيقة أن أصل بالروح سالمة وزن أحاول ما أمكنني خروجها. أحيانا، أحس أن بعض الأرواح تنازعني للطلوع. تظل تشد نفسها لأعلي وأظل أقبض علي خيط يربطها بدنيانا كي لا أفقدها، أحسها تتضرع : كفي سئمت الحياة، إنما أكابد تعلقها بهذه الحياة، كثيرا ما أكلل بالنجاح حين يسعل الجسد وتبدر منه سمات العودة، كذلك كثيرا ما أخفق، وكثيرا ما اتخبط بين الفشل والنجاح، أتوه.. لا أعي ملامح الكون من حولي، قد يفاجئني وقوفي أمام مرآتي، أتحسس تشقق بشرة وجهي من السهر، أدقق النبش عن هويتي في أعماق مجهول ذاك الوجه، وكثيرا ما يحيرني أنني لا أجدني.
أما «فرج» رفيق نوبات العمل تناوله لأشكال التعايش لا أظنها مقننة، بل علي العكس، كانت همجية للغاية، وكان علي أن أرضخ لكل مساويء صحبته من أجل طبع وحيد، وهو الانصياع لكل أهوائي ورغباتي، كان فرج لو رآني أصيح في قلب المستشفي يتبع ثورتي غير محايد، يقف بجواري صائبا كنت أو مخطئا، ويساند تبرمي من كل الأشياء مساندة محب لا مقتنع، يصغر لو فكرت في التمشية بسيارة الإسعاف، كنت أركنها علي الكورنيش وسط دهشة الناس وأستند مطلا للمياه مغمض العينين لا أدري ما بالي! ربما لأطرد رائحة المرضي التي تستولي علي أنفي طيلة اليوم، الأقدام تلتف حول دائرة وقوفي مبتعدة، اخالها ترتجف من احساس ما تشعه دائرتي فلا يختبئ، إحساس هو في الأصل تحمله ملابسي الفواحة روائح الموتي، المطخة بصبغات الأدوية، ملابسي التي تنبض أنفاس الآخرة.
حالات من عدم التركيز تغير علي عقلي فأبدو لفرج مختلا، لكنه يحتمل خللي في ود، أنهره أمام الخلق وأسبه وألعن جدوده فلا يفعل سوي الابتسام ويستقبل طريقتي المتعالية في معاملته بكل سرور، ولا أحسب أنه يستشعر الأشياء غير المرئية ويراها لوحده كما يحدث لي، هذه الأشياء التي تؤرق مضجعي وتدفعني للهلوسة، حتي بعد وقت ما زشيع عني - بين الأطباء والممرضين وكل موظفي المستشفي - الجنون.
اليوم يشبه للغاية كل أيام العمل، لا أعتقد جديدا قد يطرا علي مسيره، كعادتي تختلج بين ضلفتي يدي كف أحدهم، نظراته تتماس وكل حواسي، لعله يلقن روحي بعضا من بنود المغادرة، تنطبع فوق زجاج عينيه ابتسامة عزرائيل، فتنعكس علي وجهي، أشيح به بعيدا، لا أحتمل هذه الابتسامة المريبة، ولا أظنني قادرا علي العراك، فمتي شاء، سحبه من بين ارتعاشات يديي كأسهل ما يكون، أنا أعرف أنه ربما يبتسم هذه الابتسامة فقط يناطح عزمي ويؤكد امتثالي لأوامر السماء مهما عاندت.
ثم أنا لست رقيبا علي روحي، أنا مجرد مشبك واهن تتأرجح عليه في هذه الحياة، لا ليست لي حيلة غير الدعاء، زدعو لهم النجاة، وهم يرشقون في منتصف رأسي بأعينهم البراقة، هذا البريق الذي كثيرا ما يكون الزخير في هذه الظلماء، الهمسات تتبعثر حولي داخل الكفن الخلفي متواترة لا أكاد أفسرها، لا أدري أية أسرار هذه التي تتواثب نحو عقلي إلا أدري كيف احملها.. ولاكيف أحفظها؟ اسرار.. أسرار.. توصيات.. مراثي، كلها احتمالات الوداع المباغت، أنا آخر وجوه الأمل، وفي نفس التوقيت أنا العزاء الذي لابد منه، لكنني قد أتوه معهم، وأنا أواجه موتهم بقلب مليء بالحرقة، أستعمل أحيانا كل ما هو من شأنه الحفاظ علي حياتهم، رغم ذلك أشعر أن الأدوات التي تتناثر حولي في السيارة أدوات سخيفة، لا تكفي، ولا تعيد نبضا أو تعين جسدا، ألهث كثيرا وأنا أتناول كمامات الأوكسجين، أو أدس الإبر في أجسامهم، يتناقص بيننا الهواء، فألهث، ألهث وقد أري من يفزع، من يبتسم، أو ربما أري من لا يعنيه الأمر، يبدو شاردا، لا يأبه، كهذا الفتي الذي ربت علي ساعدي وهو يصعد، كان هناك، في مكان آخر لا أعرف.. إنما لم يكن بأي حال هنا معي، شرارة لسعت جسدي كله حين لمسني، سرت من ساعدي، إلي حلقي الذي جف فجأة، ثم إلي فمي، فخرجت سعلة خافتة، وتساءلت إلام يدعوني وهو يربت علي ساعدي؟ ولم كل هذه الطمأنينة ؟ كلا.. لن يلهيني عن عملي، ينبغي أن أحافظ علي حياته، سأركله، سزصفعه، ستتقاطر دموعي فوق قلبه لعله ينتظر ويفعلها بعيدا عن عيني. قل شيئا،لا تحسب أنني غير مشفق عليك، صغير أنت علي الرحلة، لم يشتد عودك بعد، لم تعرف معني الحياة لتعزف عنه، سأتوحد معك، لنكن جسدا واحدا، روحا واحدة، لتنتقل ما بيننا بعض الأنفاس، حرك عينيك نحوي، أرح صدري، فقلبي الذي ينفطر الآن يدعوك لتؤنسه في نبضه، لتنبضا سويا، وتجتازا هول التجربة سويا، لا ترتعد، لا، أنظري إليّ، لا أتقاضي أجري كل شهر فقط من أجل أن أكون مجرد وسيلة نقل بلهاء، أنا منقذ، هذا عملي، أنا منقذ، لا تسقط أناملك دون حراك، ولا تذهب، لا، بالله عليك أنفض عن جسدك هذا اللون الأزرق، فما زلت أحاول معك، هيا انهض.. هيا...........
هذا اليوم، السيارة تمضي، يقودها فرج، تخترق مجاهل الطرقات، وتمخر عباب البشر في عجلة، الأرواح ألتفت أراها تسبح حول سيارتنا، تقترب محلقة بسرعة من زجاج نافذتي، أرتد برأسي، تبتعد، تتناوب النقر عليه روحا بعد أخري، أتنهد، أبتسم بأسف، أشكر لها مؤازرتنا، وأنا أزدرد لعابي بقلة حيلة، حالة أخري بعيدة، والسيارة كلما تسرع تلهث، المشوار عسير، والدعاء علي شفتي لا ينقطع، الطنين حدته تزداد، الهمسات تعلو، أطياف بشرية وغير بشرية تتكدس حولنا، مثل موج يتلاطم فيرفع نبضات الحيرة، الأسذلة تنهمر علي من كل اتجاه، سرعة السيارة تصيبها بالارتجاج، والأرواح في أعقابنا. الوقت ليل، والليل لا يخفي عن بصري تفاصيل القذوفات التي تشق الطريق عكس اتجاهنا، لعلي أشهدها واضحة بطيئة تمر الهويني إذ عيني تعودت مشاهدة غرائب الأشياء، أو لعلي أفرد البصر ورائي دون عمد فيلازم المشاهدة الملقاة خلفنا، كلها تبين بيانا مفصلا، فتتلذذ ذاكرتي التهامها بشهية متأنية، أرمق فرج، الذي عيناه واسعتان وسعا غير معتاد، لا أعلم ما منعني من سؤاله كل حالات الشغل السابقة لم تحرك ساكنا فيك.. فما هذه الحرقة؟ لكن حلقي جف، وأنفاسي جفت، ودموع بدأت تسيل من عيني فرج، فالتفت للوراء، يخترق بصري زجاج النافذة، ويستقر في مؤخرة السيارة. هناك، داخل الصندوق الخلفي وفوق سريره الصغير، كان ممددا ساكتا لا يحمل أثر النجاة، تجلطت من اقتحام الهواء كل منافذ الصندوق دماء قد تفشت علي سائر ملابسه، وجهه مطمئن، ابتسامته مألوفة تحمل ارتياحا عجيبا، ابتسامة عزرائيل تطل من عينيه دون خجل، فهناك، فوق السرير، تمدد جسدي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.