بعد ثلاث تجارب شعرية ناضجة بالتجريب الحداثي، يعاود "أشرف عامر"، مجددًا، التغريد بديوانه الجديد "كأنه يعيش" حيث نأنس في تجربته الجديدة مناطق وهاجة كان قد ارتادها في "شبابيك" و"فاعلات ليلية" و "هو تقريبًا متأكد" فضلا عن مناطق أخري تظفر برقعة كبيرة من البكارة والجدة، يخطر فيها بقصيدته مفجرًا دوائر منداحة من الإدهاش. وقع الديوان الجديد الصادرعن دار ميريت للنشر في نحو من مائة صفحة وانتظم بين دفتيه نحوًا من ست وعشرين قصيدة تتفاوت، طولاً وقصرًا، كما تتحرك علي قوس رحيب من المراوحات التي تتدرج بين (الذاتي) و(الموضوعي) وتتقافز بحراك دلالي لافت بين (الداخل) و(الخارج). وبإجمال نستطيع أن نستخلص، باستبصار نقدي هادئ، ثلاث سمات فنية تطبع تجربته الجديدة وتتغلغل في أليافها وخلاياها: أولاً: حفول التجربة بحسٍّ سردي استمرارًا لانفتاح الشعري علي السردي في التجربة الشعرية المعاصرة علي نحو يدنينا من ظاهرة تراسل الأنواع الأدبية (لا تداخلها). ثانيا: الاتكاء في الجسم اللغوي للنصِّ علي الجمل التلغرافية السريعة التي تضغط الهيكل الإسنادي للجملة ضغطًا شديدًا، ثالثا: تدافع الإيقاع الزمني اللاهث تدافعا طيفيًا سريعًا. وقد تلفع هذا التكوين الشعري الفريد بملاءة سوداوية تسم الدفقة الشعرية، إجمالاً، بأجواء (كافكاوية) تتعامل مع اللحظة الحاضرة بجزع وانقباض. لكنها تخرج من ركام الانتكاسات الثقيلة بحكمة تستوطن السطر الشعري بنصوع. ففي قصيدة "فار الذاكرة"، مثالاً لا حصرًا، يترسخ إحساس الذات الشاعرة بالسوداوية والخواء والارتطام بالجدران العدمية: "في لحظات الملل/ أرتق الجوارب المثقوبة/ وأغسل الأكواب والأطباق/ بعناية فائقة/ أرتب قصاصات الورق/ المبعثرة علي المكتب.." وصاعدًا فصاعدًا تتكشف الشحنة الوجدانية الغاضبة لتصبح لعنات ناقمة تنصب علي الجميع دون تمييز، بل تنصب علي الذاكرة ذاتها: "لعن اللهُ فأرَ الذاكرة/ يقرض الأسماء واحدًا فواحدا/ ويتركني وحيدًا.." وهنا تعود (الصفحة) التي كانت حافلة بالكلمات كتلة بيضاء غفلا من الدلالة والجدوي! وفي قصيدة "النباح" تراوح التجربة بين الدلالتين: الحرفية والرمزية تحويما حول صورة الذئب الذي ينقض علي ضحيته المهيضة في غفلة من حارسها الشارد: "ينبح/ يأكل الذئب الضحية في غفلة من حارسها/ الضحية التي يتكرر نسيانها/ والحارس الذي لا يمل تكرار الخطأ". ويلاحظ أن القصيدة تتخذ، في طابعها البنائي، سمتًا فسيفسائيًا طريفًا وتتشبع في هيكلها الكبير بروح المتتالية الموسيقية التي يتخللها لحن أساسي جذري. حيث تتكرر كلمة "النباح" في صدر المقطع، وكأنه ضابط الإيقاع، الذي يكيف الانتقال الدلالي عبر المقاطع الشعرية المتدفقة. وتنتمي قصيدة "برج حمام" إلي نمط التعبير الأدبي (البيوريتاني)، بحسه الإنساني الطافح حيث تمضي الذات الشاعرة في مناغاة أسراب الحمام المحومة، بدماثة وحنان. وهنا تنثال بسخاء موجات النوستالجيا (الحنين إلي الماضي) التي تستعاد معها صبوات الطفولة المبكرة بصورها وأخيلتها الطافرة. لكننا نكتشف بمُضينا في تقصي المشهد أن أسراب الطيور التي تذرع الفضاء الواسع كانت طعمًا التقمناه وصولاً إلي المشهد الجذري ممثلا في (رحيل الأم): "لأنها/ منذ أن رحلت/ لم تفتح ضلفة الشيش، ولم تضع حفنة قمح/ علي عتبة الشباك/ كعادتها" حيث تحفل الصور الشعرية المؤتلقة بسخاء الأمومة وحضورها المدهش. ومن النبع ذاته، وبذات الهيكل البنائي تقريبًا، تمتاح قصيدة "في خصومة أبي" حيث تنتقل موجات الأسي الكامد من (رحيل الأم) إلي (رحيل الأب): "أبي الذي كان وفديًا عريقًا / نظر إليّ من خلف نظارته مبتسمًا / كماء البحر/ وفي كل مرة / أحنّ فيها إلي رشفة من فنجان قهوته.. " لقد شكلت طائفة من قصائد الديوان كتلة واحدة متسقة تستدير بنا إلي نمط فذّ من التأمل الميتافيزيقي المثير في (فكرة الموت) ذاتها. وهنا نتذكر، بالتداعي المسبَّب، أن "سوزان برنار" قد ربطت في رؤيتها النقدية المحكمة بين ميراث قصيدة النثر في القرنين الماضيين من وجه وبين ما أسمته ب" الطموح الميتافيزيقي" من وجه آخر. وهو طموح كان كفيلا، فيما أري، باكتناز قصيدة النثر، في أطوارها التاريخية المتلاحقة، بالتأملات الفلسفية العميقة في ظواهر الزمن والحرية والموت والمكان والعلاقات الإنسانية التي تراوح بين أقواس الصداقة والعداء. وتتأكد في قصيدة "دون اطمئنان" فكرة التوظيف الفني الحاذق لما هو لحظي/ عابر فيما يمكن أن نسميه (تشعير الفتات) لتستحيل صورًا شعرية كبيرة مسكونة بالتأمل حيث يصبح عبور (نفق الأزهر) تكأة فنية لتجسيد (تقازم الإنسان) الحديث في مواجهة الحواضر والمدن الكبري التي تركل أحلامه المجهضة وتبتلعه في غير ترفق: "كلما دخلت نفق الأزهر/ أشعر بفأريتي/ هكذا أكون/ فأرًا في ماسورة / مغلقة من الجهتين" وتعاود موجات "النوستالجيا" تدفُّقها المخصب بالرموز في قصيدتي "غمضة فرح" و"الوقت يجري" فحين تنفرط (حبات العقد من جيد السيدة الحسناء) تجتر الذات الشاعرة، بالاستدعاء، مشهدًا من مسارح الطفولة البعيدة حين (انفرطت حبات المسبحة) التي يطبق عليها الجد قبضته ولنكتشف في النسق الرمزي الكبير أن الأعمار هي التي تنفرط حباتها وتفيض سنواتها في الرمال دون أن تعاود! وبإجمال نقول إن قصائد الديوان قد تقطرت، في التصور الأخير، قطعة بلور كبيرة تستلهم تيماتها من فجيعة الموت ودراما الرحيل المباغت حيث تنجذب تجربة "أشرف عامر"، في إهابها الجديد إلي ساحات التأمل والحكمة لتصنع، ومع هذا التحول النوعي، موجة جديدة من موجات قصيدة النثر بوصفها فنا (إيكاروسيًا) لا يكف عن التشكل وتجديد الخلايا من الداخل.