"كل من الشعر والترجمة محاولة للوصول إلي اللغة الأم، لغتنا السحيقة التي سبقت سقوط برج بابل العظيم"، هكذا تستشهد الشاعرة صفاء فتحي بفالتر بنيامين عندما أسألها عن محاولتها للوصول باللغة إلي أصل ما بعيد، في ديوانها "اسم يسعي في زجاجة" الصادر عن دار النهضة العربية. تبدو صفاء مولعة بالتصوف، بالتفكيك، بالطاقات السرية للشعر، وهو ما يتناسب مع مصادر تكوينها العديدة والمتنوعة. هي التي غادرت مصر عام 1981، بعد أن تخرجت في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة المنيا، في باريس قدمت للحصول علي الدكتوراه بجامعة السوربون، حصلت عليها وحضرت سيمنار كان يعده الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لمدة عشر سنوات، لم تكتف بهذا، كتبت شعراً ومسرحيات، بالعربية والفرنسية، وأخرجت أفلاما، منها فيلم عن دريدا الذي ترجمت له كتباً. عن ديوانها الأخير والسينما والتفكيكية كان لنا معها هذا الحوار. هناك دائما لعب علي اللغة في ديوانك الأخير، بحيث تصبح للكلمات طاقات سرية غير منطقية، مثلما في رسم حروف اسمك، أو في محاولاتك لإنتاج حروف متجاورة (انفرطت حروفه م ه و)؟ كيف تنظرين لهذه المحاولة؟ أنا من هؤلاء الذين يؤمنون بقوة الحرف. تعلمت ذلك من المتصوفة، وليس فقط منهم بل من كتاب معاصرين كبورخيس أو جويس مثلاً. الحرف رسم يقول صوتاً وهذه الأصوات تصبح بقدرة اللغة معني. الرسامون العرب وغير العرب جعلوا من الحرف صورة فغامرت باللعب علي هذه الصورة، صورة اسمي مثلا. هذا الحرف الغريب، حرف الصاد، الذي يشبه شكل العين وهذه النقاط الغريبة التي تغير المعني بتغيير بسيط في موقعها من الحرف وفي تغييرها للصوت تبدل المعني. ذلك ناهيك عن علامات التشكيل التي تبدل الدلالة. ألا تري في ذلك غرابة؟ أنا أري مثلا أن الولع بشكل الكتابة هم من هموم الشعر واللغة العربية لغة جميلة الشكل والحرف كالوجه، يحمل التعبير والعمق والإشارة إلي المعني، كلمة "وهم" مثلاً التي حين تنفرط كعقد من اللؤلؤ تنفرط في تناسق مختلف أو مغاير للتناسق الذي يؤدي إلي نقل المعني. لذا تصير منفرطة م ه و. كيف تعمل الذاكرة في الديوان، أحسست أنك عندما تسترجعين مشهدا ماضيا فإن هذا يبدو نظرة إلي الوراء وإلي الذات الناظرة في نفس الوقت، كأنه نظرة مزدوجة في الزمن؟ عندك حق. الذاكرة تذكر واع و نسيان وموقع الذاكرة من النص موقع مزدوج من داخله. أي أن الأنا الكاتبة تغوص في المشهد و تفارقه حين تخطه. وهو موقع مفارق لهذه الذاكرة بمعني انه موقع مهاجر للنص لأنه سيفارقني فور تسجيله بالكتابة. أنا من هؤلاء الذين يقولون بأن الذاكرة مهما تكن خاصة إلا أنها غير فردية، أي أنها تحمل طبقات من الأثر الذي هو حتما أثر الآخر. هناك طاقات في الخبرة البشرية اختفت من العالم المرئي و لكنها تعتمل فيمن يحاول التقاطها و إعارة صوته لها. الزمن هو موضوعي و همي و هوسي. لا أفكر إلا فيه و لا أعيش لحظة دون تأمله. الزمن متزامن و غير تتابعي أي أن اللحظة الماضية تظل حاضرة، و لا تنتهي لأنها و جدت بالفعل. أي أن وهم الماضي والحاضر والمستقبل هو مجرد وهم إجرائي يسهل الأمور علي الناس، وهو وهم مقنع للغاية كما يقول اينشتين. بالطبع لا أضع اينشتين في مخيلتي عندما اشرع في كتابة قصيدة، ولكن امتداد الذاكرة وتوغلها في أبعاد شديدة الخفاء يدفعني إلي تأمل فكرة الزمن أو ما يخترق حائط الزمان و اللحظة التي يختفي فيها الحرف و اللحظة التي تليها و ما هو الزمن ونسبيته. أكابد كل هذا الهم كي أتمكن من الاقتراب، من تصور ما للموت و الفناء. اليد الكاتبة يد مرتعشة تعيش اليومي و المعاصر الأدبي منه و السياسي ولذا فإنها عندما تخط، تخط بطبيعة الحال في اليومي، و مكانها هو هذا اليومي الموجود الثابت، سوياً مع المنفلت الذاهب إلي الذاكرة، ومن هنا تأتي هذه الازدواجية. كأن المرء شاهد حاضر علي ما شهد عليه في زمن غاب عن الحضور. عندما تصلين بالذاكرة إلي الطفولة، تبدو النبرة حزينة، كأنك تنعين طفولة مفقودة أو حروف اسمك التي تبعثرت، هل كان هناك أصل ما، هل كان هناك اكتمال يوما ما وانشطر؟ طبعاً. و هذا لا يخصني أنا فقط. و لكنه اختيار القصيدة التي اكتبها وهو ما يدفع بها إلي الظهور. هناك، وجميع الأديان تقول ذلك, لحظة ما في الوجود البشري، ربما قد تكون قبل الظهور إلي العالم أو لحظة ما قبل التكوين، حدث فيها "الاكتمال". الوجود جرح وانشطار ورحلة للقاء الاكتمال. فرويد يحلل في كتابه الغريب "فيما وراء مبدأ المتعة" هذه اللحظة و يقول بأنها حنين المخلوق الحيوي للعودة إلي ما هو غير حيوي. ألا تعتقد أن أصل الكتابة عموماً هو هذا الأسف الذي لا عزاء له علي الجرح الغير مندمل. هل هناك إنسان يعيش لم يتعرض لقوي تشقه في مكان ما، روحاً أو جسداً. طبعاً أنا قصتي جريحة و الكتابة ليست بعزاء وإنما محاولة للوصول إلي الآخر في هذا المكان تحديداً، مكان الانشطار وزمنه، وأنا عادة ما أنفعل و أتفاعل مع الكتاب الذين يتعاملون مع هذه اللحظة و بنبرات عديدة، هناك الحزين والمأساوي وهناك أيضاً الغنائي و الفلسفي أو الفكاهي والتهكمي. انحزتِ كثيرا لقاموس من مفردات الطبيعة في الديوان (الطيور، البركة، السمكة، الصخرة، البئر، البنفسجة، الأرض، وغيرها)، هل الشعر مقصور علي الطبيعة؟ ألا يمثل هذا ردة عن الفكرة التي تقول بامتزاج الشعر بمفردات الحياة اليومية؟ نعم. ولكنه انحياز سطحي، فالبئر ليس بئراً ولا السمكة سمكة، كما أن الشاي و السيجارة يقولان شيئاً مختلفاً عن رمزية الشاي و السيجارة. هناك في هذه المجموعة كثير من الشوارع والفطر والحبر وهناك أكواب وفناجين وصور عديدة وأطباق وبرتقال وخلافه. لم أستطع حتي الآن أن أتبني فكر قصيدة النثر في مصر كما تبناها الكثيرون. ربما بسب إقامتي في الخارج وربما كنوع من العصيان. ليس هناك ردة لان تبني المفردات اليومية في قصيدة النثر ليس بثورة جمالية كبري. ولا الكتابة بهذه المفردات عمل ثوري. فكر قصيدة النثر كما انتشر في مصر هو في رأيي نوع من التمرد علي شيوخ القصيدة العربية وعلي عقائديتهم الصماء وكأن الشعر العربي لابد له أن ينغلق علي نفسه وأن يتآكل من داخله، هي عقائدية سلطوية بالأساس. لكن ومن ناحية أخري، ففكر قصيدة النثر الجديد لا يضمن في حد ذاته شاعرية القصيدة و لا قدرتها علي النفاذ إلي الفضاء الشعري. أخاف دائماً من الانغلاق في شكل أو في شاعرية لا تحتمل المغايرة. المعادلة الصعبة هي كيفية تسجيل النص الشعري الحديث بمفردات قديمة أو بعدد من المفردات القديمة التي تتعري من معانيها المتعارف عليها في سياق يضفي عليها معاني غير متوقعة. أعددت رسالة الدكتوراه في جامعة السوربون ولكنك لم تقومي بالتدريس؟ لماذا؟ كل الجامعات الفرنسية رفضتني في البداية لكي أعمل بها. السبب الأول فيما أتصور كان أن دراستي الجامعية الأولي في مصر وليست في فرنسا. أما السبب الثاني فهو أنني بدأت التقديم للتدريس وأنا أبلغ من العمر 39 عاما، أي متأخرا عن الحد المقبول هناك، والسبب الثالث هو أنني أردت دراسة جماليات الأدب الإنجليزي، وهذا موضوع لا يسمحون به لغير الفرنسيين، لأنه يخص منظومتهم الغربية. رفضوكِ حتي مع توصيات من دريدا؟ (تضحك) دريدا نفسه كان مرفوضاً من قبل الجامعات الفرنسية. كان يحاضر كأستاذ زائر في أمريكا ولكنه كان يعيش في باريس. طلبت منه جامعة مونتير التدريس عندهم واشترطوا عليه الحصول علي الدكتوراه، فحصل عليها علي مجمل أعماله التي كان من بينها "الجراماتولوجي" وغيره، وعندما تقدم للوظيفة أقاموا له لجنة، وقامت جميعها بالتصويت ضده باستثناء أستاذ واحد. من الطبيعي أن يكرهوه. كل فلسفته كانت تقوم علي تفكيك الهيمنة الأوروبية. كان خارج السياق. التفكيك أصلا كان مهمشاً في فرنسا حينها، الآن بدأوا في الاعتراف به ولكنه كان وصمة قبل ذلك. كان شعبياً ولكن شعبيته لم تكن نابعة من المؤسسة. مع إقامتك في الخارج، بأية لغة تستطيعين التعبير أكثر، العربية أم الفرنسية؟ سافرت فرنسا وأنا أبلغ ثلاثة وعشرين عاما، كنت قد تكونت بالعربية في الأصل، ولكنني درست في فرنسا، ولذا فكان من الطبيعي أن تأتي لغتي التي أكتب النظرية فرنسية ولغة الكتابة الأدبية هي العربية. ولكنك كتبت مسرحية "إرهاب" مثلا بالفرنسية؟ نعم. لأنها مسرح. والمسرح تعلمته في فرنسا. كنا نقوم ببحث عن الثورة الفرنسية. وحصلنا علي نصوص للمحكومين بالإعدام، بعد أن أعلنت حكومة الثورة أنها بصدد "إرهاب" أعداء الثورة. حصلنا علي الخطابات الأخيرة للمحكومين وسيرتهم الذاتية المعدة لغرض الدفاع عن النفس. كنت مهتمة بهذا الموضوع لأنه يخص التاريخ، ويلامس فكرة أن محو الحقبة القديمة دائما ما يكون عنيفا. كنا مجموعة من أساتذة التاريخ والفنانين والفلاسفة والعلماء والممثلين نطمح لإقامة فرقة مسرحية. عثرنا علي نصوص لناس لم يذنبوا في شيء باستثناء تواجدهم في مكان وزمان بعينه، وما يجمعهم هو أنهم مروا جميعاً علي المقصلة، وتم دفنهم في مقابر جماعية بميدان الكونكورد. استعنت بعدة شخصيات منهم لحظة دخولهم تحت المقصلة. الفكرة نفسها كما أتصور كانت قائمة علي بحث علمي؟ نعم. في نفس الوقت استعنت بدراسة للدكتور فيلبو الذي يقول أن الوعي يظل صاحيا بعد الموت بربع ساعة. (تبتسم) فيلبو هذا اتفق مع زميل له علي وشك الإعدام بأن يغمز له بعد قطع رأسه تحت المقصلة . بالاستعانة بوثائق المحكوم عليهم وبدراسة فيلبو تساءلت عما يحدث لهؤلاء المحكومين بعد قطع رؤوسهم بربع ساعة، وهي الربع ساعة التي دارت فيها أحداث المسرحية. كتبت المسرحية، أعطيتها لدريدا ليقرأها. أخبرني أنه سيقرأها بعد عودته من أمريكا. بعد عودته سألته عن رأيه فأخبرني أنه معجب جدا بالنص، فطلبت منه كتابة خطاب عن النص. كتبه وعلي أساسه تم عرض المسرحية بالمسرح الفرنسي. بعدها كتبت مسرحية أخري بعنوان "المحنة" وتم نشر الاثنين سويا مع مقدمة من خمسين صفحة لدريدا. وماذا عن الفيلم الذي قمتِ بإخراجه عنه؟ الفيلم كان شبه مستحيل من البداية. دريدا كان ضد أن يظهر في أفلام أصلا. والقناة الثقافية الفرنسية لم تكن تريد ائتمان مخرجة مصرية علي فيلم عنه . بدأت فكرة الفيلم عندما دخلت السيمنار وبدأت أقرأ عن التفكيكية. كان التحدي الكبير أمامي هو كيفية نقل أفكاره إلي لغة السينما.. دريدا لم يكن متحمساً للفكرة، بعدها قرأ المسرحية وكلفني بدراسات إلي أن أصبح شبه مؤكد أنني الوحيدة المؤهلة لإخراج مثل هذا الفيلم، برغم وجود ثلاثة أو أربعة مشاريع لإخراج أفلام مماثلة عنه. استغرق مني الأمر عامين لا أفعل فيهما شيئا غير القراءة له من أجل التحضير للفيلم، منذ أول النهار إلي آخره كنت أقرأ، قرأت جميع كتبه، الثمانين كتاباً كلهم. لأسألك نفس سؤالك. ماذا فعلت كي تحولين لغة الفكر إلي صورة؟ استعنت بالمكان. علاقتي بالمكان قوية للغاية. أخذت دريدا إلي أماكن خلاء وطبيعة، واستطعت عبر التتابعات البصرية وعلاقات الألوان ببعضها أن أخرج شيئا مقاربا لفكره. هو نفسه لم يصدق في البداية أن هذا ممكن. كان يتشاجر معي طول الوقت أثناء التصوير. لم يكن يفهم ما نفعله. كنا نطلب منه الوقوف في مكان ما ونأمره باتخاذ وضع معين وعدم اتخاذ وضع آخر، ويتعطل التصوير بسبب تغيير الشريط ويكون هو ملزما بالوقوف لنفس الوضع، فتكون النتيجة كارثية بالنسبة له. يزعق فينا بأننا نستخدمه ونقوم بتضييعه وقته. (تبتسم) كنا أحياناً نقوم بخلع ستائر البيوت وكان يغضب من يعتبره تخريبا للبيوت، ويفاجئ بأننا أعدنا ترتيب البيت بعد التصوير، ولكنه مع الوقت بدأ يندمج. صورنا معه في جنوب أسبانيا وباريس وأمريكا، كما صورت أنا وحدي في الجزائر. بعدها كتبت أنا بالاشتراك مع دريدا كتابا بعنوان "تصوير الكلام" عن تجربة الفيلم. لم يزر معك الجزائر، وطنه الأصلي؟ لا بالطبع. كان مستحيلا عليه زيارة الجزائر. مترجمه هناك قتل في الجزائر علي أيدي الجماعات الإسلامية، لأنه يترجم لشخص يهودي وأوروبي. هذه الحادثة أثرت في دريدا كثيرا، وطول الوقت كان يحمل الخطاب الأخير الذي أرسله مترجمه إليه.