كان كل شيء معداً بدقّة.. ........... منذ عشرين عاماً اختارتني هيئة عليا في مؤسسة (الرعاية المتكاملة) التي ترأسها سوزان مبارك طفلاً مثالياً علي مستوي المكتبات المقامة باسمها علي امتداد جمهورية مصر العربية. وأقيم احتفالٌ كبير في المكتبة التي تقع في حينا آنذاك العباسية- ( مكتبة عرب المحمدي) مازلت أذكر منه العربات المُصفَّحَة والمدرعات التي اصطفت أمام المكتبة قبل الموعد بيومين والرجال الغليظين الذين وقفوا يفتشون المارّة في الحديقة أمام المكتبة. أخبروا الأسرة أنني "مطلوب" للحضور للقاء السيدة الأولي وأنني يجب ان أُهندَم وألبس جيداً وممنوع أن يحضر أحد من أفراد أسرتي الحفل سوي إخوتي المشتركين معي في المكتبة نفسها ومنهم أخي الكبير الذي حصل علي الجائزة نفسها قبلي بعامين وأختي الصغيرة التي رُشّحت لها. عندما عدت من المدرسة جلست علي الشرفة التي تطل علي حديقة (عرب المحمدي) أراقب العربات من بعيد والخُضرة التي غيبتها شاحنات الجند الثقيلة السوداء، والعصافير التي لم تعد تملأ الساحات المتسعة للحديقة. وأفكّر.. ماذا سأقول للسيدة الأولي؟ لم يكن من مدي للعصافير أمامي .. ولا مدي للكلمات في روحي. في اليوم التالي كنت في المكان والموعد المحددين.. رأيت أمينات المكتبة اللواتي كُن يقرأن لي دوماً وأنشأنني علي حب القراءة والمطالعة والسؤال، كن في أبهي حلة، ويجلسن في زاوية بعيدة تحاصرهن الكاميرات وعيون الحراس الشخصيين للموكب. البالونات ملأت مسرح المكتبة، والأركان زُيّنت واختفت الكتب القديمة من علي الأرفف وأحلت بأخري جديدة أراها لأول مرة. أشارت لي أمينة المكتبة مبتسمة، فتوجهت إليها، سألتني ماذا ستقول لضيفتنا الكبيرة التي ستأتي اليوم؟ أطرقت طويلاً أمامها.. قلت بعد طول تمعن : سأحدثها عن بيتنا .. نحن نريد الانتقال إلي سكن أوسع! اتسعت عيناها وقالت لي: هذا الكلام لا يليق .. لا تقله لها.. فكر في شيء آخر .. وقفت حائراً أنظر يمنة ويسرة .. مر وقتَُ طويل.. قلت لها : جارنا قال لي إنهم هدموا ( كُشك الجرايد) الخاص به لأنها ستمر من أمامه بموكبها ويريد (كُشك) جديد! هنا نهضت أمينة المكتبة وقالت لي : لا يمكن أن تقول هذا الكلام يا حمزة .. اسمع .. تكلم عما استفدت منه في المكتبة .. ألا تقرأ وتتعلم؟ وتسمع الموسيقي هنا ونعمل حلقات حوار؟ أومأت برأسي بالإيجاب وظلت عيناي متسعتين حائرتين. تلفتت الأمينة حولها وتنهدت .. قالت: تعال معي. مازلت أذكر الكاميرات بينما تتجه بي أمينة المكتبة صوب رجال كثيرين أخذوا يلقنونني ما سأقوله أمام السيدة الأولي ومدي سعادتي باختيارها لي طفلاً مثالياً وسعادتي أصلاً بمشروع المكتبات الذي يبث الوعي والمعرفة في مصر( كنت في المرحلة الابتدائية وأحاول استيعاب ما يتم تلقينه لي بصعوبة بالغة).. بعد أن فرغ "مُلقّني من تلقينه التعليمات لي .. أشرت بيدي الصغيرة إلي شيء في خصره وسألته : لماذا تحمل مسدساً تحت ملابسك؟!
في الحفل كنت أشعر بالارتباك من شدة الضجيج والصخب والتأهُّب لشيء ما استشعرته سيحدث بعد قليل.. فجأة سطعت أضواء قوية وبدأ الجميع يتحركون بسرعة ناحية بوابة المكتبة.. كانت سوزان مبارك تقترب وسط نساء كثيرات .. مبتسمة تفرك يديها..وتنظر بحنان للأطفال. أشار لها أحد الرجال ناحيتي، كان أنيقاً للغاية ويرتدي نظارة طبية أنيقة.. أخبروني فيما بعد أن اسمه (فاروق حسني). بعد لحظات كانت أمامي مبتسمة تلاحقها كاميرات وأضواء ووجوه مبتسمة ابتسامة نمطية واحدة. قالت : ما اسمك يا حبيبي؟ أجبتها. قالت لي : وما رأيك في مشروع المكتبة. قلت: المكتبة جميلة .. والمشروع ناجح و( مثمر) .. أخذت تبتسم للحاضرين في زهو وقد علت همهماتهم بعد شهادتي "البريئة" ! ساد الصمت فأردفت : .. كما قال لي الرجل " أبو مسدس " !
بعد عشرين عاماً كنت في المكان نفسه في احتفال مرور عشرين عاماً علي افتتاح المكتبات بعدما استدعوني بالطريقة ذاتها من الحي الشعبي الآخر الذي انتقلت إليه أنا وعائلتي بعدما هُدمت بنايتنا بالكامل لتلحق بكشك الجرائد.. كنت عاطلاً بلا عمل، وكان وزير الثقافة نفسه الذي رأيته منذ عشرين عاماً هناك! فاروق حسني .. كأنه القدر، سألتني السيدة الأولي التي كرّمتني طفلاً: إلامَ وصلت يا حمزة ؟ قلت لها وقد شكرتها علي اهتمامها: أنا عاطل ..أريد أن أعمل فقط ! اندهشت ونظرت إلي وزير الثقافة : قالت له: هذا كان من أنجب الأطفال يا فاروق.. ويجب أن يحتفي به بلده. قال الوزير: طبعاً يا فندم! واستدار ملتفتاً إليّ وقال : تعمل فقط ؟ أليس لك أي طلبات ثقافية أو إبداعية؟ قلت له : أنا شاعر ولي كتاب متوقف في هيئة الكتاب منذ ثلاث سنوات ولا أريد سوي طباعته. قالت السيدة الأولي : ونطبعه لك في مكتبة الأسرة كمان. ابتسمت فرحاً. بدت علي ملامح الرجل الجدية وهو يشير إلي أحد مساعديه ويهمس في أذنه بشيء فراح الرجل يهز رأسه بطريقة ميكانيكية غريبة! التفت لي الوزير وقال: مُرّ علي مكتبي غداً في الوزارة ..نحن لا بد أن نُقدّرك. تابع وزير الإعلام أنس الفقي- ما دار من حوار والتفت إليَّ وقال: نعم.. هذا الشاب من المثقفين ويجب أن نساعده.. هل لك خبرة في مجال الإعلام؟ أجبته بالنفي. سألني عن مؤهلي فأخبرته بأنني أحمل ليسانس الآداب. لمس ذقنه بيده مفكراً قليلاً ثم أشار إلي أحدهم من بعيد فجاء راكضاً .. همس له بدوره، فأخرج ورقة من بدلته الأنيقة وراح يدون فيها شيئاً. بعدها التفت لي الوزير وقال: مُر عليّ غداً في مكتبي. قلت له في براءة : سأمر علي وزير الثقافة . قال لي في احترام جم : بعدما تنتهي من زيارة السيد وزير الثقافة مُر علي مكتبي في "ماسبيرو" في أي وقت . شكرته بينما التفّ الصحفيون حول المسئولين والوزراء، وأنا غارق في الانفعال وأحلام الغد.. لقاءان مع وزيرين في يومٍ واحد! في اليوم التالي لم يُقابلني أيٌّ من الوزيرين، أحدهما قال لي سكرتيره إنه غير موجود، وهو ينصرف عني بأوراقٍ كثيرةٍ أمامه والآخر دفعني رجال الأمن أمام مبني وزارته فتعثرت واقعاً علي الرصيف ولم أرَ سوي بندقيةٍ تشير فوهتها لي بالانصراف بعيداً وعيني الجندي الساخرتين، عبرت إلي الجهة الأخري وجلست أمام النيل مُحبَطَاً وقد تَبَخَّرَت أحلامي في كل شيء اسمه الغد. بعد شهور قليلة من ذلك اليوم كنت في مطار القاهرة حاملاً جواز سفري في يدي وتذكرة الطائرة التي ستقلني إلي إحدي جهات الأرض القصية وفي ذهني تساؤل لم أنسه منذ عشرين عاماً: لماذا كان الرجل الذي يلقنني طفلاً ما سأقوله لسوزان مبارك يخفي مسدساً؟ شاعر مصري مقيم في الخارج