مينج في السبعينيات والثمانينيات كان هناك ما يعرف بالمناضلين العالميين، "كارلوس" أشهر مختطف للطائرات كان أحدهم. المناضلون العالميون كانوا معروفين بأسماء سرية كودية، وجوههم تكون أيضاً معروفة، لكنهم يبرعون في التخفي، ارتداء الأقنعة والشوارب المزيفة للمرور من بين البوابات ومن تحت أعين الأمن. حربهم دائماً تجاه قضية يعتقدون أنها عادلة، معظمهم محمل بايدولوجيا يسارية، حلمهم الثورة المسلحة التي تقلب العالم رأساً علي عقب وتعيد هندسته مرة أخري، يتقنون استخدام الأسلحة، تركيب المتفجرات، وأحياناً قيادة الطائرات. تغيرت الصورة قليلاً مع التسعينيات وبداية الألفية حيث تم استبدال الايديولوجيا اليسارية بالفكر الإسلامي الراديكالي، وحل سيد قطب محل كارل ماركس، وبدل الزي العسكري المموه الذي عرف به المناضلون المسلحون، أصبح الزي أبيض والجلباب القصير هو الرداء الجديد. الآن موعدنا مع النسخة الأحدث للمناضل العالمي، الأمر لم يعد يحتاج للتخفي، ولا تفجير الطائرات، ولا التدرب علي حمل السلاح. فقط معرفة عميقة بعلوم الحاسب وطبقات الإنترنت والشبكات، وخلفية علمية متينة عن الفيزياء والرياضيات. في سن السادسة عشرة عمل "برادلي مينج" (مواليد 1987) في محل للبيتزا، وذلك رغم مهارته في مجال البرمجة ونظم تحليل المعلومات، والسبب أن ظروفه العائلية وانفصال والده عن والدته حالا دون دخوله الجامعة، بالتالي حينما بلغ سن الثامنة عشرة كانت فرصة الحياة الكريمة المتاحة له هي الانضمام للجيش الأمريكي. في الجيش تلقي "مينج" معاملة مهينة وتعرض للكثير من المضايقات بسبب كونه مثلياً . فالجيش الأمريكي بالنسبة للمثليين جنسياً يطبق سياسة "لا تسأل، لا تخبر"، وبالتالي يقبل الجيش المثليين جنسياً لكن لا يمكنهم الاعتراف علانية بميولهم وإلا سيتم رفضهم من الجيش. وهي القضية التي وعد الرئيس أوباما بالعمل علي حلها وعلي معاملة المثليين جنسيا في الجيش مثلما يعامل أقرانهم الطبيعيون لكن حتي الآن لم يحدث ذلك. بعد سنتين من انتقاله للجيش تم نقل "مينج" للعمل كمحلل لنظم المعلومات في قاعدة أمريكية بالعراق. يقول مينج عن هذه الفترة "تخيل أن تكون جالساً طوال 18 ساعة يومياً، لمدة سبعة أيام في الأسبوع، أمام شاشة كمبيوتر، وتمر تحت عينيك جميع التقارير عن العمليات العسكرية في العراق وغيرها من بلدان العالم، تخيلوا فقط كم الحقائق والبشاعات التي تكتشف أنها ترتكب يوميا باسم بلدك، وباسم الجيش الذي تنتمي إليه" كان من ضمن ما شاهده "مينج" فيديو يظهر عملية قذف طائرة حربية أمريكية لمنطقة سكنية مدنية في العراق، كان هذا الفيديو هو أولي الوثائق التي سربها مينج، قبل أن يضرب الضربة الكبيرة بتسريب الأرشيف العسكري للعمليات الأمريكية في العراق، يليه أرشيف الرسائل المتبادلة بين وزارة الخارجية وسفاراتها في كل دول العالم، وهي الوثائق التي نشرها موقع "ويكيليكس" وأثارت ضجة مؤخراً. اتخذ "مينج" جميع احتياطاته لكي يحمي نفسه، وتظل شخصيته سرية. كان يقوم بتسريب الوثائق لأشخاص يعتبرهما البعض الإصدار الأحدث للمناضلين الراديكاليين، وتعتبرهم الإدارة الأمريكية "هاكرز" ومخربين وأحياناً إرهابيين. من ضمن هؤلاء الأشخاص تحدث "مينج" مع "أدريان ليمو" وهو "هاكرز" سابق، تم القبض عليه بتهمة التسلل إلي قاعدة بيانات جريدة "النيويورك تايمز" وموقع شركة مايكروسوفت، وياهوو. لكنه علي ما يبدو كان قد أعلن توبته. تحدث "مينج" مع "ليمو" وأخبره عن خطته في نشر كل هذا الأرشيف لإحداث نوع من النقاش والجدل محلياً في أمريكا وفي بقية دول العالم، لكشف الحقائق، الأمر الذي أعتقد أنه سينتج عنه محاكمة المسئولين عن مثل هذه الجرائم، وفضح الممارسات غير الأخلاقية في المشهد السياسي العالمي. لكن بدلاً من أن يقوم "ليمو" بمساعدته قام بالإبلاغ عنه للجيش الأمريكي، حيث تم اعتقال "مينج" ونقله من العراق إلي قاعدة أمريكية في "الكويت" ليتم التحقيق معه في ظروف مجهولة، وحالياً ينتظر محاكمته عسكريا في ربيع 2011 بتهم قد تصل عقوبتها إلي 52 سنة سجناً، ليس من ضمنها تهمة الخيانة، حيث لم يقم "مينج" بتسليم هذه المعلومات إلي دولة معادية. أما "ليمو" فقد قرر أن يعيش حياته متخفياً، حيث أعلنت مجموعات مختلفة من الهاكرز عن نيتها الوصول إليه، والانتقام منه بسبب خيانته ووشايته بمينج. أما في أمريكا فقد بدأ العديد من منظمات المجتمع المدني والجماعات المناهضة للحرب في تنظيم الوقفات الاحتجاجية والمسيرات السلمية للمطالبة بالإفراج عن "برادلي مينج" بدعوي أن الكشف عن جرائم الحرب، لا يمكن اعتباره أبداً جريمة. جهود "مينج" الذي يبلغ 23 عاماً، وجوليان اسانج وغيرهم من التقنيين ونشطاء الإنترنت، وإن كانت تقدم صورة جديدة للمناضل الراديكالي، إلا أنها تضع الشعوب أمام تحد آخر، فهذه المرة لا يعد البطلُ المنتظر بالثورة، ولا تغيير الواقع المرير، بل يأخذ خطوة صغيرة والخطوة التالية هي للشعوب نفسها، إذا أرادت حقاً أن تفعل شيئاً.