رحل الطاهر وطار. لكن نبوءته لم تتحق. تماما كما لم تتحقق أمنيته. انفعل مرة علي أحد الشعراء الشباب. قال غاضبا: »أعرف عندما أموت لن يمشي في جنازتي أحد«. ولكن سار في جنازته الكثيرون: ساسة وكتاب.. محبون له ومنتقدون... كتاب ذوو ميول يسارية آخرون من التيارات الإسلامية التي اختلف معها. لم يكن انفعال وطارعلي الشاعر الشاب سوي »نفثة مصدور« قطعا لم تستمر طويلا معه ..فهو كما يقول عن نفسه دائما ..»بدوي .. وطفل« سريع الغضب ..ولكن غضبه لا يستمر طويلا . لم تكن الابتسامة تفارق وجهه حتي في أحلك الظروف، تُغطّي ضحكته علي »نوبات« الغضب الحادّة التي لا يسلم منها أحد. لكنّ الكلّ يدرك أنّه أمام قلب صاف لرجل يمتلك براءة الأطفال. عندما سافر إلي باريس للعلاج اعتبر الأمر مجرد " محنة عابرة" سيواجهها بشجاعة..حتي لو انتهت بالموت فالموت مجرد تجربة مثل غيرها من التجارب ..ولكنها مع الكتّاب تجربة فنية. 2 ربما ابتسم وهو في نعشه ، علي ذلك الزحام في جنازته، وهذه المقالات المادحة، أو حتي الناقدة .. ربما يريد أن يقف قليلا لا ليخطب في هذه الجموع وإنما ليشرح لهم حكايته مع الدنيا وفلسفته فيها :" ابتلاه الله بحب التعبير، حاول الغناء ولم يفلح، حاول الشعر ولم يفلح..وجد في النثر ضالته.. ورث عن جده الأنفة والكرم وعشق الحق، وورث عن أبيه النزاهة والزهد في متاع الحياة والتواضع. وورث عن أمه وخاله الوحيد رقة العاطفة وحساسيتها... وعشق الفن. بدوي أصيل. كثيرا ما يصطدم مع الحضر، ومع أساليب حياتهم حتي أنه كثيرا ما يرتكب حماقات سلوكية. فاشل في الحب، لا يتمتع بأي حظ مع البنات ربما لأنه شديد الخجل.. يحاسب نفسه كثيرا" .... هذا أنا عمك الطاهر. فيكم من فهمني واستوعب غضبي وفيكم من لم يستوعب. ورغم ذاك وذاك ها أنا أفارقكم. 3 ماذا تتمني يا عم الطاهر؟ سألته مرة؟ قال بلا تردد ولا تفكير : «تمنيت لو أني استُشهدت في الخمسينيات مع الذين استُشهدوا!». وهذه الأمنية لم يحققها. ربما تذكر هو خالد بن الوليد الذي مات علي فراشه وما من مكان في جسده يخلو من الطعنات. سألته: ولكن ماذا لو عاد الشهداء اليوم؟ يضحك صاحب »الشهداء يعودون هذا الأسبوع«: »سيتحسّرون قليلاً ثم يشرعون في البزنسة«! وهذه سمة أيضاً من سمات »عم الطاهر«: السخرية اللاذعة من الأشياء. مرةً، حكي عن زيارته لليبيا حيث رأي الشاعر العراقي المناضل الذي صعد إلي منصة الاحتفال لينشد الكتاب الأخضر شعراً. لم يتحمل وطار ما حدث، انسلّ من القاعة مغالباً دموعه! لكنّه ضحك في مطار الجزائر من المناضل المصري الذي سافر في السبعينيات إلي باريس معارضاً لنظام السادات. كانا علي الطائرة نفسها القادمة من مدينة الجن والملائكة. قال المناضل المصري إنّه قادم إلي الجزائر بدعوة من رئاسة الجمهورية. وعندما هبطت الطائرة، فوجئ بمن ينادي باسمه في الميكرفون: عربة الرئاسة تنتظر سيادتكم! ذهب يجري إلي وطار: يا عم الطاهر أنا..أنا.... سيارة لي من رئاسة الجمهورية تنتظرني في الخارج«! 4 قبل رحيله ، أرسل لي دعوة لحضور مؤتمر في الجاحظية ، كتب في الإميل : »هل تقبل دعوة لحضور حفل توزيع جائزة الرواية يوم 15 يوليو.... ربما نسهم في كسر الجليد بين الشقيقين؟« لظروف خاصة اعتذرت عن السفر، لم أكن أتوقع رحيله بهذه السرعة. مكالماتنا الأخيرة تدل علي قدرته علي مقاومة المرض ، ولكنه في هذه الفترة كان قد ملّ الأدوية وأنواع العلاج المختلفة. قرر بعد عودته من باريس ، بعناده المعروف، أن يتوقف عن تناول كل الأدوية... حتي ساءت حالته. هل هي »مداعبته« الأخيرة لنا؟ ربما لكن كانت مداعبة مع الموت. اعتاد هو هذا النوع من المداعبات ... أثناء مرضه، وإقامته الباريسية ، كانت جائزة الشعر التي تمنحها الجاحظية قد ذهبت إلي شاعر مصري، وقتها كانت أزمة مباراة مصر والجزائر في بدايتها، كنا في انتظار مباراة الخرطوم . علي الهاتف من باريس قال: " سي محمد أعطيناكم جائزة الشعر.. أعطونا المباراة".. ضحكنا يومها طويلا .. وحكيت له ما رواه لنا الصديق ياسين عدنان ذات مرّة في »الجاحظية«، الجمعية الثقافية التي أسّسها وطّار مع الشاعر القتيل يوسف سبتي منذ 20 عاماً. حكي الشاعر المغربي أنّ الطاهر تلقّي يوماً اتّصالاً من مجهول يخبره أنّ المبني سينفجر بعد ثلاث دقائق. كان ذلك في عزّ استهداف المثقفين في بلد المليون شهيد. يومها، هرع الحاضرون في »الجاحظية« إلي الخارج. وحده الطاهر تخشَّب فوق مكتبه مُصرّاً علي البقاء، بل تلقّي الخبر بابتسامة. وعندما مرّ الوقت ولم يحدث شيء، فسّر الطاهر أنّها «حكمة شيخ عركته التجارب. كل الذين ماتوا في الجزائر أمامي من الأدباء وغير الأدباء، لم يُحطهم أحد علماً بموتهم الوشيك. لذا، توقعت منذ البداية أنّ البلاغ كاذب«. 5 وطّار في كل حالاته مثير للجدل: يتّهمه المعارضون بأنّه أحد أركان السلطة، وتتهمه السلطة بأنه معارض دائم! يتّهمه العلمانيون بأنّه أصولي، وتتهمه الجماعات الإسلامية بأنّه علماني! ويتهمه الكتّاب الشبان بأنه أعاق تطوّر الرواية الجزائرية، وبأنّ ذائقته كلاسيكية... وهو يعتبر أغلب الكتابات الجديدة كتابات بلا طموح! مرة تراه بذقن، وأخري حليقاً.... لكنهّ في كل هذا يحظي بتقدير الجميع... إنّه باختصار، حالة استثنائية. معاركه ضد التعصب، سواء أكان التعصب يساريا أو يمينيا، يقول :" كنت أتعجب دائما أن يقال هذا يساري وهذا إسلامي .أنا لا أستطيع أن ألغي وجود الآخر، بل لا أستطيع أنا أن أتواجد إلا بوجوده، ونكراني له هو نكران لذاتي. عليّ إذن أن أجد الأسلوب الصحيح لممارسة نضالي". وفي النضال هو " معارض" لا يستطيع أن يكون سوي غير ذلك ، لو أقام سلطة في الصباح سيكون أول المعارضين لها في المساء، لا يقنع ب(استقرار) أو يتوقف عن الحلم والطموح. هو باختصار كما يردد ويقول دائما : " أنا مناضل محترف وكاتب هاو! 6 خارج الجزائر، هو أكثر الأدباء المغاربة شهرةً. أبو الرواية الجزائرية المعاصرة، المكتوبة بالعربية، بوابة الدخول إلي الجزائر. لم تكن تكتمل زيارتك للمدينة إلا بمقابلته في «جمعية الجاحظية» حيث اعتاد لقاء الأصدقاء والغرباء كل يوم. يدخل معهم في نقاشات حول مختلف القضايا. هناك، يبدأ يومه، يعمل مثل شاب يخطو خطواته الأولي في الحياة العملية، يريد أن يثبت لرؤسائه كم هو مجتهد. لكنّ وطار لا يرأسه أحد، هو المدير والقائد الفعلي للجمعية. مكتبه وسط العاملين معه، بينما الصالة الصغيرة للضيوف والزائرين! عندما يترك »الجاحظية«، يرتاح قليلاً في منزله، يدير التلفزيون ليشاهد الأفلام البوليسية، يجد فيها متعةً بعد عودته من العمل. هو لا يحبّ أن يشغل نفسه بقضايا فكرية وجدلية. يريد أن يستمتع فقط بتتبع الحدث والحبكة. يكتب أعماله علي الكومبيوتر منذ الثمانينيات، واستطاع أن يلمّ بكل أسراره. حتّي إنّه صمّم بنفسه موقعه الشخصي وآخر ل«الجاحظية». يكتب في الصيف فقط، يخصص ثلاثة أسابيع للكتابة إذا كانت هناك فكرة روائية تطارده. يذهب إلي منزل يملكه علي البحر بعيداً عن العاصمة ويبدأ بالكتابة. منذ مجموعته القصصية الأولي «دخان من قلبي» (1961) حتي روايته الأخيرة «قصيد في التذلل«، انشغل في مشروعه الروائي بثلاث قضايا رئيسية: »مشروعي أساساً يقوم علي تحرير الهوية الجزائرية لتصبح عربية بربرية إسلامية« يوضح: »للأسف تحرّرنا سياسياً ولم نتحرّر ثقافياً. في فترة الاستقلال، أسّسنا ملايين المدارس التي تعلّم الفرنسي. حتي إنّنا نشرنا الفرنسية أضعاف ما قامت به فرنسا خلال الاحتلال الذي استمر قرناً ونصف قرن. والبورجوازية الحاكمة أصبحت نخبة تستعمل الفرنسية لغةً للحديث«. أما المحور الثاني، فهو تصحيح مفهوم الثقافة في هذا البلد »إذ لم يكن لدينا ثقافة حديثة في السابق ولم يكن لدينا الأدب بالمفهوم الحديث«. المحور الثالث هو تحرير المثقف الجزائري من التعصب. لذا اختارت »جمعية الجاحظية«شعار »لا إكراه في الرأي«. »تحرير« هي الكلمة الأهم التي يكرّرها »عم الطاهر« خلال تناول مشروعه الروائي. لذا، لا يتواني عن وصف نفسه ب»المناضل المحترف والكاتب الهاوي«. لكن من خلال عشر روايات وثلاث مجموعات قصصية وثلاث مسرحيات وعدد كبير من السيناريوهات والترجمات، أسّس مدرسة أدبية خاصة »أحاول عبرها أن أؤسس لشكل ينبني علي العلاقة الجدلية بين الشكل والموضوع، وهذا يجعلني لا أنسج علي منوال أي مدرسة أخري. والقاسم المشترك في هذه الأعمال، هو الخيال الجامح والاستعانة بما وراء الواقع«. 7 لم يسرد هذه الحكايات في مذكراته التي اكتفي بجزئها الأول فقط، ربما لأنّ »اليقظة تمنعه من البوح« كما يقول. لكن مع إلحاح الأصدقاء، كتب القليل مما لديه من حكايات وأسرار في الجزء الأول من المذكرات ..يقول: »كنت أركّز قبلاً علي الإبداع باعتباره أهم ما يمكن تركه للناس. لكنّني أحسستُ بالظلم، عندما قال بعضهم إنّ وطار صنيعة للنظام الشمولي أيام بومدين، وصنيعة الحزب الواحد. وقالوا إنّني تخليت عن يساريتي. لكنّ الجميع يعرف أنّني شاركتُ في ثورة التحرير، وتركت دراستي، ولم أستثمر هذا الأمر. لذا حاولت في الجزء الأول من مذكراتي أن أقدم ما يشبه المقدمات: من أنا؟ ما مكوناتي الروحية والفكرية؟ حاولت أن أشرح معاناتي". 8 منذ 9 سنوات تعرفت علي " عمي الطاهر" . ربما كان " إميلا" أستطلع رأيه في قضية أدبية للجريدة، تحدثنا علي "الماسينجر" ...ومن يومها نتحدث تقريبا كل يوم: في الأدب والفن والسياسة والدين، في بيته بالجزائر أكلت عيش وملح، وعرفني علي عائلته، وفي سيارته طفنا العاصمة كلها، رأيتها بعيونه، الكل يعرفه، العاديون في الشارع ، وضباط المرور ، وفي المطار ..! في مطار هواري بومدين شاهد الضابط جواز سفري: صحفي!! ابتسم ابتسامة أعرف معناها جيدا ،وأشار أن أنتظر قليلا! قلت إنني قادم بدعوة من جمعية الجاحظية، فلم يعرني انتباها، لا بد من استشارة وزارة الإعلام أولا! قلت إنني قادم بدعوة من الطاهر وطار... كان الاسم كفيلا بأن يفتح الرجل لي الأبواب المغلقة : عم الطاهر اتفضل! وعلي البعد تكونت بينه وبين ابني الصغير محمود علاقة قوية، لابد أن أرسل صوره أولا بأول، في مكتبه بالجاحظية علق ثلاث صور واحدة له، وثانية ليوسف سبتي، والثالثة للصغير محمود .. وعندما يسأله الضيوف عن هوية ذلك الطفل الصغير يجيبهم: " ابن ابني"!