في روايته البكر "حيث لا تسقط الأمطار" ( دار الآداب)، والتي استلهم السارد عنوانها، من أحد الملصقات السياحية الضخمة، وخمّن أن تلك الصحراء والواحات تتعلق ببلاده، يكتب صاحب "حياة كسرد متقطع" سيرة جيل بأكمله، آمن بالأفكار الكبري، ولم يجد أمامه في نهاية المطاف سوي المعتقلات أو الهروب من جحيم ملاحقات الأنظمة البوليسية، غبّ تلاشي أحلامه الكبري، وترصد الرواية عبر التداعي الحر، وبكثير من الدهشة والشجن، تفاصيل اليومي في زمن التحولات، وغربة الذات وتمزقها بين ال"هنا" وال"هناك". يستهل أمجد ناصر روايته بعودة بطله "يونس الخطاط"، معذّبا بحنينه الملتاع وغربته المضاعفة، وقد تركت معاول الزمن آثارها علي ملامحه وجسده، وأيضا علي الناس والأشياء من حوله، فتنثال الذاكرة المخاتلة، مستحضرة الأماكن والوجوه، الأصوات والروائح... بعد عشرين عاما، يعود يونس إلي وطنه، الذي فرّ منه، بعد مشاركته في محاولة اغتيال "الحفيد"، وسيفاجأ بأن كل سنوات النضال ضاعت هباءً، فهاهم أعداء الأمس صاروا حلفاء اليوم، يستعين بهم النظام من أجل إيقاف مدّ التيار الإسلامي الكاسح، والكتب التي كانت محظورة تباع علي الأرصفة، وصديقه القديم محمود (أبو طويلة) إرتمي في أحضان السلطة، في حين تحوّل سلمان، المعلم الشعري الأول ليونس إلي داعية دينيّ يجوب القري والمداشر، وسيطال هذا التغيير حتي المكان، فيتعرض لتشوهات بصرية، إذ تحول "المنشآت الطنانة حقول القمح والذرة، وأجمات الصنوبر والعرعر إلي ذكري بعيدة". اللافت أن الكاتب غير معنيّ بتراتبية الأحداث أو بخطية السرد، بل يبرع، كما روائيّ قدير، في تنقلاته السردية/ الزمكانية دون الإخلال بانسيابية الحكي وجاذبيته، فيتذكر لقاءه بالشابة الثورية، التي ستصير زوجته فيما بعد، لكن سرعان ما ستفتر علاقتهما بسبب إنطوائيته وميله إلي التكتم، ويستحضر ذلك البرنامج الإذاعي، الذي يفاجئ ضيوفه باقتناص ذكرياتهم البعيدة والمنسيّة، ثم عثور الزوجة علي ورقة علي قارعة الطريق، فتشك في أنه كاتبها، وتشتعل ذكري حبه القديم لرلي أو "سيدة المدينة"، كما سمّاها في قصيدته الغزلية، فضلا عن استرجاع حبّه للتردد علي الأسواق الهامشية، حيث الأشياء المستعملة، ومحاولته البحث عن ساعة تشبه هدية خلف، صديقه الأقرب إليه، علي رغم كراهيته للكتب، وحزنه لفقدانها.. في حين، كان، من قبل، يتعمد تضييع الساعات/الهدايا الأخري، بأن يتركها علي طاولة مقهي أو مكان عام، ويغادر...