ننشر ترجمة يوسف ادريس لقصة "زوجة الصيدلي" لأنطون تشيخوف، وهي القصة التي أشار اليها الناقد شعبان يوسف في الحلقة الماضية من مقالاته التي تحمل عنوان "ضحايا يوسف ادريس"، وهي القصة الوحيدة التي ترجمها إدريس في حياته كلها. كانت المدينة الصغيرة تسبح في نوم عميق ،وكان الهواء راكدا لا يسمع خلاله إلا نباح ذلك الكلب البعيد ... نباح رفيع متقطع ،وكان القمر علي وشك البزوغ ،أما الشخص الوحيد الذي استثناه النوم في تلك الليلة فكان زوجة الصيدلي "تشيرنو ميرديك". لقد غادرت فراشها أكثر من مرة بعد أن آوت إلي مضجعها وقد جافاها النوم. وأخيرا عنّ لها أن تجلس في ثوب نومها الشفاف بجانب النافذة لتحملق في الشارع المقفر ، وأحسّت بشعور جارف من الحزن والملل والضيق ...الضيق الذي كانت تحس معه أنها علي وشك أن تصرخ ...ولم تكن تدري لماذا؟! وعلي بعد أمتار قليلة منها كان يرقد "تشيرنو مورديك" ملتفا بالغطاء ،ملتصقا بالحائط ،تاركا العنان لشخيره المرتفع ،وعنّ لبرغوث جشع أن يغرس فمه في قمة أنفه ،ولكنه لم يشعر ولم يتحرك بل كان يبتسم في بلاهة لعل مبعثها أنه كان يحلم بأن كل انسان في القرية قد أصيب بالسعال وأنه أصبح لا يتورع عن بيع الزبائن قراص الكحة ،فكيف توقظه من نومه لسعة برغوث أو طلقة مدفع ؟!. فكانت الصيدلية تحتل بقعة نائية من القرية ،فما أن امتد بصر الزوجة من خلال النافذة حتي صافح الحقول الشاسعة ،ثم امتد لبقع علي الأفق الشرقي البعيد الذي بدأ سواده يتلاشي رويدا رويدا ثم يستحيل بعد هنيهة إلي لون قرمزي هّاج ، وكأن نارا عظيمة تنعكس علي صفحته ،ومن خلف الشجيرات البعيدة كان يزحف قمر عريض الجبهة علي غير ميعاد. وفجأة ،وفي سكون الليل تناهت أصوات وقع أقدام وهمس خافت ،وسرعان ماظهر شخصان يرتديان ملابس الضباط البيضاء ،أحدهما طويل ضخم ،والآخر كان أقصر طولا وأقل حجما ،كانا يسيران بجانب الحاجز وقد تمهلا في سيرهما وانطلقا في حديث صاخب . وحينما مرا أمام الصيدلية أبطآ السير تساءل الرجل النحيف: أشم رائحة ..آه تذكرت ،لقد حضرت هنا في الأسبوع الماضي لأشتري قليلا من زيت الخروع ،ما أقبح ذلك الصيدلي بوجهه الأمرد ، وفكه الذي يشبه فك الحمار ...ياله من فك ياعزيزي ، لعله كذلك الذي قتل به شمشون دليلته. ورد الآخر في صوت منخفض : قد تكون علي حق ياصديقي ...هو نائم يشخّر الآن وكذلك زوجته ،يالها من امرأة جميلة يا أوبتيزوف لقد رأيتها وسحرني مرآها ...أخبرني يادكتور ..هل تستطيع جميلة كهذه المرأة أن تحب رجلا كهذا الرجل ؟! لا ...من المعقول جدا أنها لا تحبه. قالها الطبيب في صوت متأوه ،وكأنه يشعر في قرارة نفسه بالأسف والرثاء للصيدلي . المرأة الجميلة نائمة الآن ..نائمة وقد ضاقت بحرارة الجو ،وفمها الصغير نصف مفتوح ..وقدمها الرقيقة معلقة في الفراش ،أراهن أن هذا الصيدلي الغبي لا يدرك كم هو سعيد الحظ ، لا شك أنه لا يفرق بين امرأة وزجاجة من السم . ثم استطرد يقول : أري يادكتور أن ندخل الصيدلية ونشتري شيئا ...وربما نستطيع حينئذ أن نراها . يالها من فكرة ! في الليل ؟! وماذا فيها ؟...إنهم مرغمون علي أن يبيعوا لنا حتي في الليل ...هيا...هيا ياصديقي. وسمعت زوجة الصيدلي صوت الجرس ،والتفتت إلي زوجها فوجدته يغط في النوم ،فارتدت ثوبها ومضت تلبي النداء. وفي الواجهة الزجاجية للصيدلية استطاعت أن تميز شبحين فأشعلت المصباح وأسرعت إلي الباب تفتحه ،وفي هذه اللحظة لم تكن تشعر بالحزن أو بالتبرم أو الضيق أو ...حتي شعورها بأنها تود أن تصرخ مع أنها كانت واجفة القلب حينذاك، ودخل الطبيب الضخم و "أوبتيزوف" النحيل ، كان الطبيب بدينا مترهلا ، ذا شارب ضخم مشعث لا تهزه حركاته التي تبدو بطيئة دائما ،ومع هذا فقد كانت أقل حركة منه تبعث الاحمرار إلي وجهه وتسرع في تنفسه وكان الضابط الآخر وردي اللون ،حليق اللحية والشارب ، وسألت المرأة الرجلين وقد ضمت ثوبها إلي صدرها : ماذا أستطيع أن أقدمه ؟ أعطينا ...بأربعة قروش حبوب نعناع فأخذت المرأة وعاء زجاجيا من فوق الرف وبدأت في وزن الحبوب من غير إبطاء. وحدق "الزبائن" بأعين نهمة في ظهرها ،وقال الطبيب وكأنه يركل الكلمات بفمه : هذه أول مرة أري فيها سيدة تبيع في صيدلية وأجابت المرأة وهي تنظر إليه بركن عينيها : وماذا في ذلك ؟ وفوق هذا فإن زوجي ليس له مساعد، وأنا أقوم بمساعدته دائما. أقول الحقيقة ...إن صيدليتكم الصغيرة في غاية الروعة ، يا إلهي ما هذا العدد الضخم من الأوعية والزجاجات ؟! حتي أنت لا تخافين وأنت تتحركين بين السموم والمهلكات. كانت الزوجة في هذه الأثناء قد ربطت اللفافة الصغيرة وناولتها للطبيب وأعطاها أوبتيزوف النقود ،ومرت لحظة صمت قصيرة تبادل الرجلان علي إثرها النظرات ،وتقدما خطوة ناحية الباب ،ثم تبادلا النظرات مرة أخري ،وفي النهاية قال الطبيب : أعطني "صودا" بقرشين ؟ ومرة أخري مضت المرأة في بطء وتثاقل تمد يدها إلي الرف، وهنا تعثرت الكلمات في فم أوبيتزوف وهو يقول : أليس لديكم شيئا...شيء مثل .. شيء مهضم ...منعش ...مثل ...مثل ماء سولزر فأجابت المرأة: نعم لدينا برافو ! إنك جنيّة ولست امرأة ...اعطينا ثلاث زجاجات ولفّت المرة "الصودا" ثم اختفت وراء الباب . وغمز الطبيب بعينيه وقال موجها الكلام لأوبيتزوف : يالها من امرأة ياعزيزي ..إنك لن تجد (خوخة) مثلها ولا في جزيرة (ماديرا)...إيه! ماذا تقول؟...أتسمع الشخير في الداخل ،إنه الصيدلي عليه السلام يستمتع بإغفاءة هانئة. وعادت المرأة بعد دقيقة ومعها خمس زجاجات ،وحينما حاولت فتحها ،وقع منها المفتاح فبادرها أو بتيزوف : هس...لا تثيري مثل هذه الضجة وإلا أيقظت زوجك ! وماذا إذا أيقظته؟ إنه نائم ..ويخيل إلي أنه يحلم بعينيك الجميلتين ...في صحتك. فقال الطبيب وهو يغالب (الزغطة)التي اجتاحته بعد ماء السولزر: الأزواج أناس مقبضون في الحقيقة ،وأحسن شئ يفعلونه هو أن يناموا ملء جفونهم دائما.. ما أحلي نقط من النبيذ علي هذا الماء ! فقالت زوجة الصيدلي : يالها من فكرة ! بل إنها ؟ ...بحق الشيطان لماذا لا يبيعون الكحول في الصيدليات ؟! ولكنكم مع هذا يجب أن تبيعوا النبيذ ، فهل عندكم (روح النبيذ)؟ نعم إذن أحضري بعضها ... أحضريها لعنة الله عليها وجلس أو بتيزوف والطبيب علي (البنك) وخلعا قبعاتهما ،وبدآ في احتساء النبيذ لابد للانسان أن يعترف بالحقيقة دائما ...إن هذا النبيذ جد قبيح ،إنه ليس من روح نبيذ ، إنه (روح قطران) ومع هذا ففي حضورك يبدو كرحيق آلهة الإغريق. إنك رائعة يا (مدام) إني أقبّل يدك الجميلة في خيالي . فقال أوبيتزوف : إني أبذل كل غال في هذا السبيل ولكن ليس في الخيال ..أقسم بشرفي إني أبذل حياتي رخيصة وهنا احمرّت وجنتا مدام تشرنو مورديك وقالت في نبرة جادة : أظن في هذا الكفاية وضحك الطبيب في خفوت وقال ناظرا إليها في خشوع من تحت أهدابه : يالك من ماهرة خجول ، ولو أن عينيك يلتهبان إلا أنني أهنئك ...لقد هزمنا وانتصرت يافاتنة ! ونظرت زوجة الصيدلي إلي وجهيهما المحمرين ،وأصغت إلي ثرثرتهما ،وسرعان ما امتلأت حياة وحركة .. فاشتركت في المحاورة ،وضحكت وهي تستمع ثم شربت بعض النبيذ بعد إلحاح من الرجلين ثم قالت : لماذا لا تأتيا إلينا خاصة ومعسكركما قريب ...كم هو مقبض هنا ...إن هذا الجو المقبض يقتلني فقال الطبيب : أعتقد هذا ...هذه القمة ...هذه المعجزة من معجزات الطبيعة تقذف هكذا وبمنتهي البساطة في قلب الأحراش الوعرة ، ولو أن موعد قيامنا قد حان إلا أني سعيد بمعرفتك ...جد سعيد ،والآن كم تريدين منا ؟ فقالت : أربعة وثمانين قرشا وأخذ اوبيتزوف حافظة نقود منتفخة من جيبه ،وبعد أن قلّب بعض الأوراق دفع إليها بالنقود وهو يقول ضاغطا علي يدها : إن زوجك نائم في سلام ، لابد أنه يحلم دع يدي ثم رحل الرجلان وذهبت إلي حجرة النوم ،وجلست في نفس المكان ،فرأت الضابط والطبيب ،وهما يغادران الصيدلية ، ويمشيان ، ثم يقفان ،ثم يتحدثان همسا ...عن ماذا؟ كان قلبها يخفق بشدة ،وكأن الهمس الذي يتبادله هذان الرجلان سيقرر مصيرها ،وبعد خمس دقائق أخري رحل الطبيب وترك أوبيتزوف الذي رجع ودخل الصيدلية مرة ثم أخري، ورنّت في أرجاء الليل دقات الجرس. ماذا !....من هناك ؟! هكذا تعالي صوت الصيدلي وسمعته امرأته فجأة ،ثم عقب هذا صوت صارم يهتف : هناك جرس يدق علي الباب وأنت لا تسمعينه...أهكذا تدبر الأمور؟ ونهض من فراشه وارتدي معطفه ومضي وهو نصف نائم يترنح إلي الصيدلية ،ثم مال أوبيتزوف ماذا ؟ أعطني .. أعطني بأربعة قروش حبوب نعناع واستدار الصيدلي ناحية الرف ومضي وهو يتثاءب وينام ضاربا البنك بركبته ...ومضي إلي الزجاجة. ومضت دقيقتان ، خرجت زوجة الصيدلي أوبيتزوف بعدها ،وبعد أن خطا بضع خطوات رأته يقذف بلفافة النعناع في الطريق المظلم ،وجاء الطبيب من خلف الركن ليقابله . وبعد أن تبادلا بعض الإشارات اختفيا في ضباب الصباح كم أنا يائسة ؟! قالتها زوجة الصيدلي وهي تنظر إلي زوجها الذي كان قد بدأ يخلع ملابسه في سرعة ليدخل إلي فراشه مرة أخري . وأعادت القول مرة أخري وقد ذابت فجة في دموع مريرة : لا أحد يعرف ...لا أحد يعرف... لقد نسيت الأربعة قروش علي البنك ...ضعيها في الدرج من فضلك.. وكان هذا هو كل ماهمس به الصيدلي وهو يجر الغطاء فوقه ...ثم راح في نوم عميق.