الرئيس مبارك له معارضوه فى مصر، وله مؤيدوه طبعا .. البعض يغالى فى المعارضة ليصل إلى التجريح الشخصى، ولا يرى فى 25 عاما من الحكم سوى الفساد الإدارى والسياسى والتبعية والتهميش لقضايا الوطن، والبعض يغالى فى التأييد فيرى أن مصر تحولت خلال 25 سنة من الحكم إلى جنة الله فى الأرض .. إلى دولة عظمى تنعم بالاستقرار والأمان والرخاء رغم العواصف السياسية والاقتصادية التى تمر بها المنطقة. ولكن معارضى الرئيس مبارك ومؤيديه يتفقون على نقطة إيجابية مؤكدة فى صالحه، فخلال 25 سنة من الحكم نعمت الصحافة بوضع استثنائى من الحرية لم تعرفه منذ قيام ثورة يوليو، وباستثناء بعض الحالات الفردية هنا أو هناك فقد أمن الصحفيون على حياتهم ومالهم وحياتهم الوظيفية، وأصبحت فى مصر صحافة مستقلة وحزبية ومعارضة شرسة لا ترحم كل المسئولين ورفعت خطوطها الحمراء فى السنوات الأخيرة لتتجاوز حتى النقد المباشر لرئيس الجمهورية وعائلته بشكل لم تعرفه الصحافة المصرية فى تاريخها الطويل حتى فى العصر الليبرالى قبل وصول العسكر إلى السلطة. ولكن هذه الرفاهية الصحفية يبدو أنها وصلت إلى آخر المشوار وأصبح من الضرورى على السلطة أن تلجأ (للعين الحمرا)، ويبدو أن عهد المذابح الصحفية وتربص السلطة بالصحافة والصحفيين قد بدأ يطل على مصر من جديد، وربما تكون الشهور القادمة حاسمة فى تحديد طبيعة المناوشات التى يمكن رصدها فى الوقت الحالى بين السلطة والصحفيين، وهل يمكن أن تتطور هذه المناوشات لتصل إلى الانقلاب على سجل ال25 سنة الماضية النظيف نسبيا بين السلطة والصحافة. والواقع أن المرحلة الماضية جعلت جميع أطراف اللعبة الصحفية فى مصر (الأمن .. المؤسسات القومية.. الصحافة المستقلة .. لجنة السياسات) تصل إلى مرحلة من الترقب والتحفز تنذر بمواجهة قادمة ربما تطيح بالنقطة الإيجابية الوحيدة التى يتفق عليها معارضو الرئيس مبارك ومؤيدوه خلال سنوات حكمه الطويلة ألا وهى موقفه المتحرر والمتسامح من الصحافة. وخلال الصيف القادم سوف تقوم السلطة باختبار خط أحمر كانت تتهيب تجاوزه وهو فصل الصحفى من جريدته، فسوف يتعرض أكثر من خمسين صحفيا بمؤسسة الأهرام للفصل الجماعى، وهم الصحفيون الحاصلون على إجازات بدون مرتب ويعمل معظمهم فى صحف ووسائل إعلام عربية ودولية، حيث أنذرهم مجلس إدارة الأهرام بالفصل أو إنهاء الإجازات والعودة، ووقف أحد الصحفيين الحكوميين الكبار فى مجلس الإدارة يصف هؤلاء الصحفيين بأنهم "يسيئون لمصر ولسمعة مصر"، وربما يكون ما يعنيه الصحفى الحكومى الكبير أن هؤلاء الصحفيين المحسوبين على المؤسسة القومية يقدمون قناعاتهم وآرائهم بشكل مستقل عن توجهات المؤسسة، ولا يلتزمون بالخط العام للصحافة القومية فى تمجيد الرئيس ولجنة السياسات (على الفاضى والمليان)، ولذلك فقد بدأت محاولات تقليم الأقلام الصحفية المشاغبة، والبداية مع الصحفيين المهاجرين الذين يعملون فى وسائل إعلام دولية وعربية من خلال إجبارهم على العودة أو الاستقالة أو التعرض للفصل، وبعدها سوف يأتى دور الصحفيين المحليين العاملين فى الصحف المستقلة المشاغبة، حيث يتكون قطاع عريض من العاملين فى هذه الصحف من صحفيين عاملين فى مؤسسات قومية، ولكنهم يجدون على صفحات هذه الصحف المستقلة متسعا للبوح والتعبير بما يعجزون عن كتابته فى مؤسساتهم القومية، حيث سيتم تفعيل النصوص العتيقة الموجودة فى لوائح المؤسسات الصحفية التى تمنع الصحفى من الكتابة أو العمل بالصحافة خارج مؤسسته. وهكذا يتم محاصرة أكثر من 90% من صحفيى مصر فى فخ الوظيفة، والتعامل معهم على أنهم موظفون لدى الدولة يمكن أن يتعرضوا لجزاءات مادية وإدارية إذا استقلوا برأيهم أو مارسوا أدوارا لا تسمح بها المؤسسات القومية أو السلطة السياسية هذه المواجهة التى يجرى الإعداد لها فى كواليس المؤسسات الصحفية تنذر بصيف ساخن فى الوسط الصحفى المصرى الذى يترقب تغييرات فى قيادات المؤسسات الصحفية القومية. ** هذا المقال سبق أن نشرته فى 22 مايو 2007، ولم أجد كلاما آخر أستطيع أن أعلق به على ما تشهده مؤسسة الأهرام حاليا، فحملة الضغط الحكومى على الصحفيين مستمرة، وانتقلت من خط أحمر إلى آخر وما تنبأت به منذ عامين فى هذا المقال يحدث الآن بالحرف الواحد بعد قرارات مجلس إدارة الأهرام بمطاردة الصحفيين الذين يتعاملون مع صحف أو فضائيات خارجية، فبعد أن شهدت الأهرام أكبر مذبحة جماعية لفصل الصحفيين خلال الشهور الماضية (هناك حوالى 50 صحفيا مهددون بالفصل بسبب عدم تجديد إجازاتهم)، أصبح من الضرورى الانتقال للمرحلة الثانية فى حملة تقييد الصحفيين وترويض الصحافة المستقلة التى سحبت البساط من تحت أقدام الصحف .. وهو ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العمل الصحفى الجماعى للحفاظ على كرامة الصحفيين، وقيمتهم من "عين السلطة الحمرا"..