الإسكندرية طائر نورس لم يعتل سفينة نوح، لكنه حتما سيدخل الجنة، فالحب والشتاء بها حالة خاصة من صفاء القلب والوجدان، حين يدق الشتاء أبوابها، ويتبدل صخب المصطافين، بنسيم البحر ورائحة اليود ممتزجة برائحة الورود والياسمين بالكورنيش. الإسكندرية بنت تشبه مدينة تشتعل بوهج التمرد والجنون تلف البحر ملاءة تسير تغنى للولد الجالس على مقهى التجارية يكتب شعرا للوطن.. فى الشتاء تشتعل بوهج المحبين والتمرد على الطبيعة الباردة وجنون الوقوف تحت المطر، والجرى على الكورنيش، وحبيبان تسبقهما خطاهما للعناق والقبل، ليذوب صقيع البحر بابتسامة تناطح السحاب. حين تجوب شوارعها بالشتاء، تعانقك اللهفة لتكون أنت العاشق الوحيد لها، يأخذك الفضول لسحب ملاءة البحر التى تلتف حول خصرها، تتجاذب أطرافه وأنت جالس على مقهى "التجارية"، لتعاودك الذكرى لحلم مضى يذكرك بما تبقى من محاولة لاغتيال براءة كليوباترا ومارك انطونى وقصة حب لم تكتمل، ظل البحر بعدها صدئا يتداعى على كفيك الجرح. تستكين فى المقهى وتطلق العنان لعينيك، تداعب البحر وطيور النورس التى تملأ سماءها، تسترق السمع فتجد أم كلثوم فى مذياع المقهى "هذه الدنيا ليالى أنت فيها القمر"، وتحدد لك الغد لقاء بينك وبين الحبيب الغائب، فتتذوق طعم البحر فى حلقك، فللذكرى طعم الملح، وتجلس وحيدا تنتظر الغائب. تتبدل الذكرى بين خيالك والواقع، فتجد غيمة البحر تغطيك وتسمع أخبارا عن النوة، فيقتلك الانتظار لكنك لا تستطيع مقاومة الرغبة فى أن تصبح جزءا من المشهد، تبدأ حمرة خجل العشاق تصعد للسماء، ليتبدل لونها الأزرق بالأحمر الممتزج بدخان الشيشة ورواد مقاهى الكورنيش، وتتحول سماء الإسكندرية لغيمة مطر، تسقط لتزيل هموم المارة، وقلوب العشاق المحفورة على مراكب الصيادين، وتخبر الجميع بقصص الحب بأسمائهم الثنائية، تستحم المراكب بدموع القلوب المرسومة بجير البحر والطباشير، ويطهر المطر خطايا الحب المدفونة بالرمال. وهنا تحاول التقاط آخر اسم لم تمحه حبات المطر، لتعرف أن الإسكندرية حب أول، وقبلة عاشق فى ضوء القمر، ولتعاودك أم كلثوم "هذه الدنيا عيون أنت فيها البصرُ" تصعد فى عينيك الأشياء متلاحقة فتراها بزاوية أنت خارجها، وتستريح قليلاً وتتذكر مذاق قبلة الحبيب حين كان يرتجف قلبك، فتسقط دمعة من عينيك، وتعاودك أم كلثوم مرة أخرى "قد يكون الغيب حلوااا" قد تكون الذكرى، دفء البحر، طعم كفيك، قليل من الدخان وكثير من أغانى أم كلثوم. حبات المطر ترتطم بإسفلت الإسكندرية، تغسل هموم المارة، وآهات الشحاذين، لتختبئ بجوار الرصيف وتتسرب فى فتحات أعمق من جرح الحبيب، ليعود كل شئ كما كان.. تتلألأ سماء الإسكندرية.. تسطع الشمس وتعود طفلا معصوما، تتسرب من عينيك حبيبتك، تخبرك "الله على شكل النوم فى عينيك الله"، ويسطع نجم فى السماء يعلن ولادتك من جديد، بعد أن اغتسلت برائحة اليود والذكريات ووجه الحبيبة وأم كلثوم وشحاتين الكورنيش. وحينها ستعرف أن الإسكندرية رصيف للقاء ورصيف للسفر، فعلام تختلفون فيه.