منذ زمن أفكر فى الموت بوصفه حجرة من المرايا، وكلما فقدت أحد هؤلاء الذين أحترمهم وأحبهم أجدنى فى مواجهة المرايا، بذاكرة عارية مرتجفة؛ أتأمل انطباع صورة الراحل على روحى وعقلى، وأحاكم خبرتى به وعلاقتى معه. وأمام مرآة الموت يتملكنى دومًا إحساس بالتقصير والندم؛ فأقول لنفسى دومًا لقد كنت تستطيع أن تفعل أكثر، كنت تقدر على أن تقدم المزيد، وأتحسر على لحظات فرح ودفء لم أنعم بها معه، وأوقات تعاطف ومودة لم أصل بها إلى ذروتها. وهذا هو حالى مع الراحل نصر أبو زيد، الذى كان اختطاف الموت له فجأة ودون سابق إنذار قذفًا بروحى إلى هاوية الألم. لم يكن نصر أبو زيد مجرد زميل وأستاذ فى جامعة القاهرة يشهد له الجميع بطهارة اليد واللسان ودماثة الخلق والتفانى فى طلب العلم وعشق الوطن، بل كان بالنسبة لنا –نحن زملاؤه وتلامذته- أيقونة للروح الشفيفة المتصالحة مع نفسها ومع العالم من حولها، التى تحركها سكينة وطمأنينة ولمحة من تصوف روحانى كان تجليها الأبرز هو زهده فى متاع الدنيا، وإيثاره نعيم الآخرة. كان نقيًا يخشى دومًا على روحه من التدنس بالانشغال بدنايا الأمور، واثقًا أن علم العالم لا ينفصل عن روحه وأخلاقه، وأن أمانة الكلمة لا يمكن أن تُحدث فعلها إلا مصحوبة بإخلاص الفعل ونقاء السريرة. لم أعرف أحدًا من الباحثين المعاصرين ابتُلى بسوء فهم الناس له، وسرعة حكمهم عليه بقدر ما حدث للدكتور نصر. لقد كان ضحية ثقافة السماع التى تحكم على فكر إنسان دون أن تقرأه، وتردد ما لا تفهمه، وتتهم بما ليس لديها عليه دليل. وللأسف فإن ثقافة السماع أصبحت هى المسيطرة لا على الأشخاص العاديين ممن يمكن للمرء أن يلتمس لهم العذر بالجهل، لكنها أصبحت وسيلة تشكيل أفكار وتوجهات شرائح من النخبة الفكرية ممن يرددون ما لا يُحسنون فهمه، ويتقولون بما لا يؤمنون به، ويزايدون على معتقدات الآخرين بينما يغوصون فى وحل فساد الروح والخلق. وآمل أن يكون رحيل دكتور نصر فرصة لكى يراجع هؤلاء الذين ضللتهم ثقافة السماع أفكارهم واتهاماتهم، وأن يتجردوا من أثر الجهل ونوازع الهوى. فما أحوجنا جميعاً أن نقف أمام مرايا الموت عراة بلا ادعاء أو مزايدة. مدرس الأدب العربى بجامعة القاهرة