تنمية الظهير الصحراوى.. خلخلة الكتل السكنية.. إعادة توطين العشوائيات.. كلها تعبيرات تحمل دومًا معنى واحدًا.. نقل جزء من السكان من المناطق المأهولة والمزدحمة إلى المناطق غير المأهولة أو منخفضة الكثافة السكانية.. وهو اتجاه أراه- دون أدنى شك- أنه قد يحل معظم مشاكل مصر الاجتماعية ولا أبالغ إن قلت والاقتصادية أيضًا.. ودعونى أوضح هذا: إن الطاقات المهدرة، ومعدلات التقدم البطىء، والعشوائية، والتوتر النفسى، هى سمة من سمات الأماكن المزدحمة، حتى وإن توافر بها وسائل الترويح والترفيه، إذ أن معاناة الأفراد بها تصبح وكأنها قدر لا ينقطع.. فهم يعانون- مثلا- من أجل العثور على موضع قدم لركن سياراتهم فى الشارع لأن الجراج أسفل البناية- التى دفعوا فى إحدى وحداتها تحويشة العمر- يكفى بالكاد ربع سكانها.. وهم يعانون من أجل مياه عذبة لا تصل إلى الأدوار العليا لأن الشبكه الأرضية بالكاد قد صممت على سعة تقل عن ذلك بكثير.. وهم يعانون من حارس عقار لا يستطيع تلبية احتياجاتهم من المشتراوات لأنه فى النهاية إنسان من لحم ودم ولا يمكن تقسيمه أو تفتيته أو استنساخه.. وهم يعانون من ازدحام مرورى يستهلك طاقتهم ووقتهم وصبرهم ورباطة جأشهم.. ويعانون من أماكن قد انعدمت لابن أو ابنة فى مدرسة أو حضانة، أو حتى فى أحد مراكز الدروس الخصوصية ولسان حالهم يقول: "رضينا بالهم والهم مش راضى بينا". الخلاصة أن الفارق بين المجتمعات المزدحمة وتلك قليلة الكثافة السكانية تبدو مثل الفارق بين درجات السلم التقليدية وبين السلالم أو السيور الكهربائية التى تنقلك من مكان لمكان وأنت كما أنت محتفظًا بطاقتك وبعطرك وبهندامك وبابتسامتك، لينعكس هذا كله على دور سوف تؤديه وأنت "على الزيرو"- إن جاز التعبير. المؤلم فى الأمر أن هؤلاء المعانين هم عينة عشوائية من نسيج مصر.. وهم تروس صغيرة أو كبيرة فى دولاب العمل بها... منهم الطالب أو العامل أو المدير.. وهم ينقلون معاناتهم تلك معهم أينما رحلوا وحيثما استقروا، ويصبح الحديث عن أى تنميه بشرية أو اقتصادية- فى ظل مناخ كهذا- نوعًا من الهراء. الغريب فى الأمر أن الجميع يعلم أبعاد تلك المشكلة، ويعلم جيدًا النتائج الإيجابية التى ستعود على بلدنا إن نحن فكرنا يومًا بإعادة توزيع السكان بما يحقق الانسجام بين عدد السكان ومساحة الأرض، لكن لا أحد- وأنا أولهم- لديه الاستعداد لأن يغامر بأن يكون كبش فداء وأن يعيش فى أى من تلك المجتمعات العمرانية الجديدة فى بداياتها، حيث الخدمات متدنية، ووسائل الترفيه منعدمة، بخلاف من قد يراه البعض غير مكتملا، وأنا هنا لا أتهم الدولة بالتقصير ولا أطالبها بما هو فوق طاقاتها.. فمثل تلك الأمور تحتاج ميزانيات ضخمة قد تعجز الحكومة عن تدبيرها، على الأقل فى ظروفنا الحالية.. إن كان الامر كذلك فلماذا أثير هذا الموضوع عديم الجدوى والفائدة. الموضوع يبدأ من سوريا.. وهى دولة عربية.. تجمعنا بها علاقات خاصة، أكثر بكثير من أى دولة عربية أخرى، ففى فترة ليست بالبعيدة كونا مع الشعب السورى الشقيق دولة واحدة باسم واحد، وأنطوينا سويا تحت لواء رئيس واحد ودستور واحد وعلم ونشيد واحد، حتى بعد أن نجح دعاة الانفصال فانفصلنا، ظل المصير المشترك بيننا شاهدًا على تلك الرابطة تدعمها دومًا عناصر الجغرافيا وحقائق التاريخ، فحاربنا سويا ضد عدو مشترك فى ملحمة من أجمل الملاحم التى شهدتها الدولتان على مر تاريخهما الحديث. خلال فترات الربيع العربى- ولأسباب لا نود التطرق إليها- بدأت سوريا فترة ربيع عربى سرعان ما تحول إلى حرب أهلية أسفرت عن سقوط ما يقرب من 220 ألف قتيل، وإلى تدهور فى الاقتصاد السورى بشكل يغنى عنه ذكر أى أرقام، وقد أدى ذلك كله إلى نزوح السكان السوريين من أماكن الصراع بل من سوريا كلها حتى بلغ عدد اللاجئين السورين فى دول الجوار(تركيا / العراق/ الأردن/ لبنان) إلى ما يقترب من خمسة ملايين لاجئ سورى، وقد احتضنت مصر على أراضيها ما يقرب من 150,000 لاجئ، وهو رقم هزيل لا يتناسب مع دولة بحجم وكيان مصر، ولا يتناسب مع علاقات تاريخية ممتدة مع الشعب السورى الشقيق، لكن الأوضاع الاقتصادية التى مرت بها مصر علاوة على الأوضاع الأمنية فى سيناء وأحيانًا فى بعض المدن الداخلية أجبرت القيادة السياسية على اتخاذ تلك السياسة، متعرضة بذلك لكم هائل من النقد ومن القيل والقال. هنا تأتى فكرة المقال.. لماذا لا نضرب عصفورين بحجر واحد... إن كان حل بعض من مشاكلنا يقبع فى التوسع الأفقى فلماذا لا نخطط لمعسكرات لاجئين لإخواننا فى سوريا فى الظهير الصحراوى للمدن المصرية تكون بمثابة نقطة بداية لمجتمعات أكبر.. ولماذا لا نسلم لهم أراضى قابلة للاستصلاح ضمن تلك المنتشرة على أطراف صحارى مصر ليستصلحوها ثم ينتفعون بها فترة من الزمن تعود بعدها إلى الدولة مرة أخرى.. لماذا لا نسمح لهم بأن يتواجدوا فى أسواق بعيدة يرفض الباعة الجائلون أن ينتقلوا إليها، رغم أن المسئولين كادوا يقبلون أيديهم حتى يوافقوا.. لماذا لا نسمح لهم أن يتواجدوا فى مناطق صناعية بعيدة عن العمران بعد أن عجز مسئولونا عن أن يخلوا القاهرة بأحيائها من هذا الكم المتنامى من الورش الحرفية والميكانيكية والكهربائية.. لماذا ولماذا ولماذا.. مما لا شك فيه أن هناك أفكارًا كثيرة تدور كلها حول المبدأ ذاته.. وإننى أثق- بما أعرفه عن الأشقاء السوريين- أن تلك المجتمعات ستصبح بعد فترة ليست بالبعيدة نقاط جذب للعديد من المصريين، وسيأتى يوم يعض فيه البعض على أناملهم كيف ترك تلك الفرصة تضيع من تحت يديه.. وراجعوا معى- إن كان البعض قد نسى– بدايات مصر الجديدة، ومدينة نصر، وسوق العبور، ومدينة الحرفيين، والكثير. بقيت نقطتان سأمر عليهما سريعًا.. الأولى وهى ألا يتصور البعض أننا نستغل محنة الشعب السورى لإصلاح مشاكلنا، بل هو نوع من الاستفادة المشتركة التى تفرضه الظروف أو كما يقولون فى علوم الإدارة "WIN WIN strategy".. أما النقطة الثانية فتتعلق بتصدير الإرهاب، وهى نقطة لا أرى جدوى من الكلام فيها، فالحدود مراقبة وجيشنا وشرطتنا والحمد لله لها على أهبة الاستعداد لأى حدث- إن حدث- وكان الأولى بدول أوروبا التى استضافت أعدادًا لا بأس بها من اللاجئين السوريين أن تتذرع بتلك المقولة. ثم إننا يمكن أن ننظم تلك المجتمعات- عددًا ومكانًا- بالصورة التى تضمن سيطرتنا التامة عليها. الخلاصة إن علينا- حكومة وشعبًا- واجبًا تجاه إخواننا فى سوريا، وإن الظروف التى تمر بها مصرنا فى الوقت الحالى تفرض علينا حلولًا خارج الصندوق، وها نحن نقدم إحداها، فماذا أنتم فاعلون.