ملامح الناس تغيرت، الشوارع كما هى لكنها حزينة، الأسماء هى الأسماء لكنها فقدت الروح ، كل شىء حولى أراه من نافذة الأتوبيس الذى وصل الآن بنا أنا وباقى الأسرى العائدين إلى قلب القاهرة .. كنا حوالى 40 رجلا ما بين ضابط و عسكرى .. اااااه الوضع لا يُبشر بخير أبدا، فنحن متجهون الآن الكلية الحربية كما قيل لنا وأن القائد أحمد إسماعيل عايز يشوفنا ... عادةً و فى وضع كهذا ، يحاول القائد تقديم تفسير مقنع لما حدث للجنود، لكن ترى ماهو المبرر المقنع لهذه الهزيمة؟! أبدو كالبرميل المنتفخ الذى على أ وشك الإنفجار رغم نحافة جسمى .. . على باب الكلية كان فى انتظارنا ثلاثة ضباط وعدد من العساكر ... دخل كل منا بإسمه وعند الباب خلعنا الساعات ، صودرت الأشياء التى كانت بحوزتنا حتى مجموعة الأمواس التى كان الإسرائليون يوزعونها علينا كل أسبوع من ماركات مختلفة .. اه اه اه .... أذكر أننى جمعت عددا منها وكأنها طوابع بريدية ... أخذوها ،، اتجهنا الى قاعة تشبه قاعة الإمتحانات .. طرابيزات .. كراسات إجابة.. أقلام جافة ، والسؤال موحد ومفتوح : ما الذى حدث لك من أول الآسر إلى اليوم ؟؟؟ لم أتمالك نفسى ، فبعد كل هذا المشوار الطويل .. هذا العذاب أخضع لاستجواب بهذا الشكل المرهق، ليس فى عقل للكتابة، حتى الراحة لم أذقها بعد هذا المشوار.... وبمجرد وصولنا نخضع لهذا المجهود الذهنى المؤلم ؟؟؟ ( أنا مش حاتكلم ولا أكتب كلمة واحدة ،، ماعنديش ثقة فى أى حد قدامى يا فندم ) قلتها بصراحة مخلوطة بنكهة الألم للعقيد الواقف أمامى . العقيد يرد على برفق ( لية كده يا ابني، دا انتا فى بلدك ) .. قلت له بعصبية ( معلش انا عايز أقابل مدير المخابرات). كأن رأسى قد تحجرولم يعد على لسانى غير هذه العبارة لكل الرتب التى جائتنى بعد هذا العقيد .. أخرجونى من اللجنة بعد الضجة التى أحدثتها بعباراتى الثائرة وما هى الا نصف ساعة حتى جائنى فى غرفة - أجلسونى فيها منفرداً- رجل هادئ النفس ،حسن السمت ، حازم الملامح ، خاصة حاجباه اللذان كأنما قد تجمعا عليهما هموم هذا البلد فباتا علامه من علامات الزمن .. إقترب منى وقال بعد وقوفى إحتراما له، فقد كان برتبة لواء ( انا مدير المخابرات يا احمد، خير يا ابنى ) .. التقط أنفاسى وهززت رأسى قائلاً ( الموضوع كبير جداً يا فندم ) مدير المخابرات : خير يا احمد فيه أيه؟؟ قلت : انا عايز تفضولى اُوضة وتجيبولى واحد أمليه، لان ماعرفش أفكر وأكتب فى وقت واحد، لغاية ما أفضى اللى فى دماغى كله.. بإستغراب مشوب بأبوة حانية قال لى : حاضر يا ابنى . كان الكاتب يجئ كل يوم فى ال 9 صباحاً ويمشى فى ال3 ظهراً .. كنتُ أنادم نفسى مع هذا الكاتب بكل ما حدث منذ أسرى وحتى عودتى .. استغرقت أربع أيام فى عصر ذاكرتي، مشهداً مشهداً ، بكل ما فيها من شخوص وكلام ومكان وزمان ... وكنت إذا نسيت شيئأ ثم ذكرته أقول للكاتب " أكتب ملحوظة "... كانت المقارنة تزعجنى لكنى لا اسطع الهرب منها، بين ما شاهدته فى اسرائيل وبين ما أعيشه الأن بعد عودتتي. زميلى فاروق الجابرى دفعتى فى الكلية الحربية وكان معايا فى المدرسة فى دمنهور، حدث وان جلست معه ذات مرة ، نادى عسكرى وطلب منه كوبين من الشاي....وبعد غياب العسكرى حوالى لثلث ساعة ،عاد وقال لنا ( يا فندم مش عايزين يدوني، لازم بونات ) . وهنا صرخت فى وجه فاروق ( شفت يا سى فاروق ده حاجة وسخه وتخلف، إسرائيل بقى ، غير كده .. الراجل يخبط على الباب ويدخل ويحط لك الشاى والقهوة والعصير من غير لا بونات ولا زفت ...) . كنت حزيناً لقولى هذا، لكن هذا ما كنت أشعر به ساعتها .. كانت الأرض تميد بى كلما خضعت لمنطق المقارنة هذا، لكن لا فائدة لا أستطيع ان أنسى . بهدوء مرٌ أسبوع على عودتنا ونحن داخل الكلية الحربية وها نحن اليوم الخميس نتأهب لنزولنا أجازة فى المساء وليل القاهرة الساحر سنراه ونعيشه، علنا ننسى كل الآلم التى رأيناها .. جاء القائد محمد فوزى خطب فينا خطبه من إياها ..الخطب الرنانه ثم أعطونا كل واحد عشرون جنيه وإنطلقنا فى اجازتنا لمدة شهر، كان الأسبوع الأول منها رحلة جماعية لنا لأسوان وماجورها .. طبعاً كانت عملية فرفشة لينا .. ثم بعد هذا الأسبوع إنطلق كل منا الى غايته .. أهله وذويه . عدت من أسوان الى شقه ابن عمتى فى القاهرة، وكانت زوجتى مع بنتى ذات السنتين فى انتظارى هناك... أقمنا معه، فقد كان بمثابه ولى أمرى .. وفى يوم كنتُ قد دعيته لأكلة سمك عند خال زوجتى الذى يسكن شارع الألفى والذى دعانى انا و زوجتى وإبنتى لقضاء اليوم معه، وما ان حضر ابن عمتى وكان وجهه شاحبا ، حتى رمانى بعبارة بدت عاديه فى مثل تلك ألايام ( يا أحمد، الدنيا مقلوبة عليك .. عايزينك تانى ، جُم وسابولك نمرة تليفون ).... تناولتها وبكل امتثال إتجهت الى التليفون ... دقائق وكانت سيارة الجيب تقف تحت العمارة فى انتظارى . الى اللقاء فى الجزء الخامس