نصيحة هابيل للمصريين من العالم الآخر: إنه هابيل أحد أولاد آدم وأول قتيل من بني البشر.. سالت دماؤه على أرضها على يد شقيقه قابيل. جاءني صوته من أعمق أعماق التاريخ حنونًا عطوفًا أبويًا وفي نفس الوقت عميقًا مؤثرًا قويًا: لماذا يابني تؤرقني وتقض مضجعي وتخرجني من هذا السبات الطويل الطويل الذي يكاد يبلغ طوله عمر البشرية كلها؟! معذرة يا أبي ولكني لم أقصد إزعاجك تحديدًا.. كل ما في الأمر أنني خرجت هائما على وجهي في عالم الأرواح لعلي أجد فيها حلا لما نحن فيه ولما نعانيه في بلدنا مصر في هذه الأيام.. الكل متربص بالكل والكل يريد أن يفتك بالكل دون وازع من دين أو شفقة أو رحمة أو ضمير. ما هذا الذي تقوله يابني؟ ألهذا الحد صَدَّقَ عَلَيْكمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُتموهُ؟! نعم يا أبي حتى لقد بلغت منا القلوب الحناجر وظن بعضنا بالله الظنون.. ولهذا لا أعتقد أن روحي التقت بروحك بمحض الصدفة فلابد أن لديك حلًا شافيًا لما نحن فيه. لا يابني لا أعتقد هذا.. فالحل لما أنتم فيه بين أيديكم وأقرب إليكم من حبل الوريد ولم يكن يستحق عناء هذه الرحلة الطويلة بطول عمر البشرية كلها ولكنكم عميتم عنه عمدا أو جهلا فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. أين هو ذلك الحل يا أبي.. بالله عليك دلني عليه. ألم يقل لكم نبي الله عيسى "وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الآخر أيضا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا" (1). بلى يا أبي قالها وأبلغنا. ألم يقل لكم نبي الله محمد "إذا تَواجَه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"(2) ولما قيل له: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه. بلى يا أبي قالها وأبلغنا. إذن فما الذي يمكن أن أضيفه لكم فالحل بين أيديكم ولكن على قلوب أقفالها. لعل القدر قد ساقني إليك على وجه الخصوص لأنك في فترة مبكرة جدا من التاريخ الإنساني قدمت روحك تطبيقًا عمليًا لأوامر هذين النبيين العظيمين وكل من سار على هديهما ونهجهما من سائر البشر وضحيت بنفسك فداء لهذه المثل العليا بجسارة ونبل ومثالية تحسد عليها. لا تذكرني يا بني بالحسد لقد كان سببًا لهذا الشر المستطير الذي وقع فيه أخي قابيل حتى ارتكب هذه الكبيرة وقتلني وسن سنة القتل بين بني البشر فلا تقتل نفس ظلمًا إلا كان عليه كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل على الأرض، فلا تجعلوا للحسد مكانًا بينكم.. فالحسد نار تأكل صاحبها قبل أن تأكل المحسود. خبرني يا أبي كيف حدث هذا بينكما لعل هذا يكون عبرة لنا تردنا عما نحن فيه. كان أبي آدم يزوج ذكر كل بطن بأنثى الأخرى، ولكن أخي قابيل أراد أن يخالف هذه التشريع، وأمره أبانا آدم عليه السلام أن يزوجني أخته فأبى وأرادها قابيل لنفسه، فأمرنا أن نقرب قربانًا إلى الله. وذهب آدم ليحج إلى مكة، واستحفظ السماوات على بنيه، فأبين، والأرضين، والجبال فأبين، فتقبل قابيل بحفظ ذلك، وكان أكبر مني سنًا. وماذا حدث بعد ذلك؟ أنتم تعرفون القصة وسجلتها لكم الكتب السماوية التي نزلت فيكم.. لقد قرب كل منا قربانه إلى الله، وكنت راعيا للغنم فقربت كبشا سمينًا وظللت أتوسل إلى الله بالدعاء أن يتقبل مني، وكان أخي صاحب زرع فقرب حزمة من رديء زرعه، فنزلت نار، فأكلت قرباني، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال لأبينا آدم: إنما تقبل منه لأنك دعوت له، ولم تدع لي، وتوعدني فيما بينه وبينه، فلما كان ذات ليلة أبطأت في الرعي، فبعث آدم أخي قابيل لينظر ما أبطأ بي، فلما لقيني قال لي مغضبًا: تقبل الله منك، ولم يتقبل مني، فقلت له: « إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » فغضب قابيل عندها، وضربني بصخرة كانت معه فقتلني. اعذرني يا أبي في هذا الاستفسار.. لقد كان قابيل أكبر منك سنًا فلعله كان أقوى منك فلم تقدر على التصدي له ومواجهته. يعلم الله أنني كنت أشد منه قوة، وما منعني من أن أبسط إليه يدي بالأذى إلا خوفى من الله تعالى، وخشيتي منه، وتورعت أن أقابل أخي بالسوء الذي أراده مني بمثله.. ولما توعدني بالقتل اكتفيت بقولي: « لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ» (3). ولكنك قلت له: « إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ » (4) فلعل هذا قد استفزه نحوك أكثر. لا والله إنما قصدت بهذا "أني أريد ترك مقاتلتك، وإن كنت أشد منك وأقوى، وإذا كنت قد عزمت على ما عزمت عليه، فعليك أن تبوء بإثمي وإثمك، أي تتحمل إثم قتلي مع ما لك من الآثام المتقدمة قبل ذلك". وهكذا طوعت له نفسه قتلك. فقتلني وأصبح من النادمين. يا أبي أن تضحيتك بنفسك هذه لم تذهب هباءً منثوراً فهى قد فتحت بابا من أبواب الفقه في شريعة المسلمين يغفل عنه كثير من الناس؟ كيف كان هذا يا بني؟! يشرع للمسلم الدفاع ضد من يتهجم على نفسه أو ماله أو عرضه، ويجب أن يكون ذلك بالأخف فالأخف، فلا يجوز قتله إن كان يندفع بما دون ذلك، فمن أمكنه الهرب لزمه الهرب، لأن الهرب حينئذ هو الأخف، وقد اختلف الفقهاء في حكم دفع هذا المتهجم على النفس وما دونها، ولقد ذهبأئمة الشافعية إلى أنه إن كان هذا المتهجم مسلمًا غير مهدور الدم فلا يجب دفعه في الأظهر، بل يجوز الاستسلام له كما يجوز دفعه، وسواء أمكن دفعه بغير قتله أو لم يمكن، بل قال بعضهم: يسن الاستسلام له لقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: كن كخيرابني آدم(5).وهو بهذا يضرب بك المثل والقدوة. صلى الله عليه وسلم كما أن هناك ياأبي من بني البشر من استن بسنتك وترك نفسه لقاتليه ولم يدفعهم عنه وهو قادر على ذلك درءا للفتنة واتباعا لسنتك؟ من هو يابني؟! إنه ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه صاحب رسول الله وثالث الخلفاء الراشدين فرغم علمه بأن الخارجين عليه كانوا يريدون قتله ترك قتالهم مع قدرته عليه فهو الخليفة ومنع حراسه من الدفاع عنه وقال: من ألقى سلاحه فهو حر، واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليه أحد. رحمه الله رحمة واسعة. معذرة يا أبي فقد أزعجتك وأثقلت عليك فلقد لجأت إليك لجوء المضطر..ولكن قبل أن أستأذنك بالانصراف أرجو منك نصيحة لأبناء مصر لعلها تخرجهم مما هم فيه فلقد أصبحنا على حافة هاوية يُخشى أن تمتلئ بدماء أبناء وطن واحد مزقته الخلافات والفتن. ليس لدي جديد أقوله لك.. كل ما عندي هو نصيحتي بأن يقول كل منكم لأخيه ما سبق وقلته لأخي: « لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».. ثم يسدل يديه بجانبه ويترك صدره مكشوفًا له محتسبا أجره على هذا عند الله كما احتسبت.. وإلا فانتظروا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. c.V وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30 )فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) سورة المائدة