الأوضاع السائدة فى مصر المحروسة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن مصر هى بلد الأعاجيب! لقد سبق لنا أن قررنا أن يوم اندلاع الثورة- أى ثورة فى أى مكان- مهم للغاية،لأنه يمثل انقطاعاً تاريخياً بين نظام استبدادى راسخ ونظام ديموقراطى جديد، يحاول الثوار تشييد أركانه عبر مسالك عادة ما تكون معقدة غاية التعقيد. غير أن اليوم التالى للثورة لا يقل أهمية عن يوم اندلاع الثورة ذاتها! وإذا طبقنا هذه المقولة على ثورة 25 يناير لاكتشفنا أن اليوم التالى لها شهد ظواهر بالغة الإيجابية -لا شك فى ذلك-، وأهمها على وجه الإطلاق بروز قوة الإرادة الثورية والتى تجلت فى مظاهرات ومليونيات متعددة ركزت على إصرار الشعب على المشاركة فى اتخاذ القرار. ليس ذلك فقط ولكن على مراقبة تنفيذ القرار. غير أن بلادنا شهدت بالإضافة إلى هذه الإيجابيات الثورية ظواهر بالغة السلبية، ليس فى مجال السلوك الاجتماعى حيث سادت ظواهر الانفلات الأمنى وتعددت صور الإجرام الجديدة من خطف الأشخاص طلباً للفدية، أو قطع الطرق رفعاً لمطالب فئوية ضيقة ومغالى فيها، أو التعدى على المديرين والرؤساء فى المصالح والشركات، ولكن فى مجال السلوك السياسى أيضاً. وينبغى أن نتوقف طويلاً أمام بروز نمط جديد من البلطجة السياسية بالإضافة إلى البلطجة الإجرامية المعروفة. وإذا كان البلطجية من المجرمين يمكن فهم دوافعهم وضعاً فى الاعتبار ظروفهم البائسة وضياعهم الاجتماعى، فكيف نفسر من يمارسون البلطجة السياسية وهم محسوبون على المتعلمين والمثقفين من ناحية، وعلى السياسيين من ناحية أخرى؟ ويعنينا هنا تحليل البلطجة السياسية التى تزعمها «حازم صلاح أبو إسماعيل» وأنصاره، الذين احتشدوا بالآلاف فى مواكب صاخبة تأييداً لمرشح لرئاسة الجمهورية لم يتورع عن ممارسة الكذب المفضوح بصدد جنسية والدته، بالرغم من توافر الأدلة القانونية على حصولها على الجنسية الأمريكية. وما هى حكاية التظاهر والاعتصام أمام مقر اللجنة الخاصة بانتخابات الرئاسة، حتى بعد صدور القرار القاطع باستبعاده من قائمة المرشحين للرئاسة؟ وما هذه التهديدات بالاستشهاد فى سبيل «حازم لازم»، والمناداة بالعصيان المدنى؟ وكيف يسمح هو نفسه بذلك وهو محام دارس للقانون، وما الذى يجعله بهذا السلوك الفوضوى يظن وهماً أنه يمكن أن يكون رئيساً لمصر؟ وإذا تأملنا من ناحية أخرى سلوك «خيرت الشاطر» ممثل الإخوان المسلمين، نجده لا يقل غرابة عن سلوك «حازم أبو إسماعيل». فهذا المرشح الإخوانى رجل الأعمال والمليونير وممول الجماعة، والذى يدعى أنه أعد مشروعاً للنهضة، كيف يسمح لنفسه بعد استبعاده بأن يمارس لغة التهديد والوعيد وينادى بالكفاح المسلح انتقاماً لواقعة استبعاده، والتى تمت بناء على تطبيق لصحيح القانون. وهل كان يمكن لهؤلاء المتنطعين الذين يمارسون البلطجة السياسية علناً أن يحكموا مصر فعلاً؟ وإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى بعض التجمعات الفوضوية وأبرزها على الإطلاق جماعات «الألتراس»، سواء تلك التابعة للأهلى أو الزمالك أو المصرى أو الإسماعيلى، والتى بدأت كجماعات لتشجيع الكرة، لوجدناها تحولت لتصبح جماعات سياسية فوضوية وتخريبية، تريد أن تطبق القانون على هواها وتمارس التظاهر والاعتصام رافعة شعار «القصاص للشهداء»، حتى بعد أن تم تحويل 73 متهماً للمحاكمة الجنائية. وكيف يمكن لمصر بعد الثورة أن تسمح بأن تنطلق مجموعات من الفوضويين لمحاصرة المحاكم، وممارسة الإرهاب المعنوى ضد القضاة، حتى يصدروا الأحكام طبقاً لآرائهم المنحرفة؟ ويبقى السؤال هل تحولت البلطجة السياسية إلى علم له أساتذته من السياسيين المنحرفين، وإلى فن تمارسه الجماعات الغوغائية من بسطاء الناس الذين خدعتهم الشعارات الدينية المتطرفة؟ لا يمكن للديموقراطية أن تقوم فى ظل البلطجة السياسية والغوغائية الجماهيرية! ومن هنا يمكن القول أننا بصدد ظواهر بالغة الخطورة، لأننا انتقلنا من شعار «إسقاط النظام» وقد سقط فعلاً بفضل جسارة ملايين المصريين الذين التحموا بشباب الثوار فى الميادين العامة إلى محاولة هدم الدولة ذاتها، ممثلة فى قواتها المسلحة ومؤسستها الأمنية ومؤسساتها القضائية. غير أن أبرز السلبيات قاطبة هى محاولة تفكيك المجتمع ذاته، من خلال نسف قواعد التعامل المرعية بين الرؤساء والمرءوسين، من خلال ممارسات تعبر عن سيادة نوع من أنواع البلطجة الاجتماعية. وهكذا نواجه كمواطنين نؤمن بالثورة مخاطر البلطجة الاجتماعية من ناحية، وسيادة البلطجة السياسية من ناحية أخرى!