نصف الحقيقة أخطر من الجهل الكامل.. هذه ليست فلسفة بل حقيقة صادمة، يمكن ملامستها بعد انتهائك من قراءة السطور التالية.. البداية كانت رحلة إلى العريش المصرية , شمال سيناء, الغرض منها الالتقاء ببعض أفراد عائلة «الزرباوى» المصرية التى تمتلك مساحات شاسعة من أرض النقب المقام عليها مفاعل ديمونة الإسرائيلي , لكن هناك توالت المفاجآت المدهشة لحد الصدمة، والتى تكشف كثيرا من أسرار تنشر لأول مرة، وتشهد بفساد ذمم وخراب نفوس.. مع تعامد عقارب الساعة معلنة السادسة صباحا , أقلتنا السيارة الخاصة, كاتب هذه السطور والمصور الصحفى, وفى غضون خمس ساعات وصلنا العريش بعد أن اجتزنا طرقا تلفها الصحراء، وعلى امتداد البصر ورمال ورمال تقطعها أحيانا نقاط خضراء، و منازل بسيطة، قبل أن نخترق العمران, حيث استقبلنا أفراد العائلة بالترحاب والكرم البدوى المعهود. الفضول كان الدافع الأكبر لأن اكسر تلك الدبلوماسية والحفاوة بالسؤال عن سر إصرار العائلة على عدم بيع أراضيها فى النقب حتى اليوم رغم الضغوط التى مارسها البعض عليهم, فكانت الإجابة على لسان احد شباب عائلة الزرباوى مؤكدا أن أرض الأجداد لا تباع خاصة وانها مازالت محتلة, معتبرا انه من العار بيعها قبل أن تحرر. مقاطعا الحوار السابق, أخرج أحد مشايخ العائلة ملفا كبيرا يضم عددا كبيرا من الصور الضوئية لمستندات وحجج وأوراق اتضح فيما بعد أنها سندات الملكية وحجج أراضيهم فى النقب التى أقامت إسرائيل عليها عدة منشآت أبرزها مفاعل ديمونة النووى الشهير, اى ان ذلك المفاعل بحكم القانون مقام على أراض تخص مصريين, بالإضافة إلى مساحات شاسعة من مزرعة آرئيل شارون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق, الواقعة في النقب بالقرب من مستوطنة ›دوروت› في أرض الخلصة القديمة. سألت عن المساحة الكلية للأرض فقال أحد الحضور إنها تبلغ أكثر من 36 ألف دونم, اى قرابة ثمانية آلاف فدان , وأضاف أحدهم أن إسرائيل اغتصبت تلك الأراضي من عائلته التي كانت تمتلكها منذ عام 1922، وتم تسجيلها رسميا في دائرة تسجيل الأراضي التابعة للحكومة الفلسطينية عام1937 والمعروفة باسم ‹الطابو› وهو ما يعتبر دليلا قاطعا على أحقية الزرباوي في هذه الأراضي، خاصة أن إسرائيل أعلنت عام 1948عقب قيامها أن الفيصل الوحيد لامتلاك كل الأشخاص سواء كانوا عربا أم يهودا لأي أرض في أي موقع سيتحدد على أساس تسجيلها في هذه الدائرة, اذا فحتى إذا تم الاحتكام الى القوانين الإسرائيلية فإن هذه الأراضى تخص مصريين بشكل رسمى. فى تلك الأثناء دار سؤال فى ذهنى عن دور السلطات الإسرائيلية فى الأمر, وهل عرضت على العائلة اى صفقة لشراء الأرض, فجاءت الإجابة من احد افراد العائلة والذى كشف لى عن ان الموساد حاول أكثر من مرة إغراء العائلات المصرية التى تمتلك اراضي فى فلسطين لبيعها لليهود باى مقابل, لكن العائلة رفضت, لكن الغريب هو ان الحكومة المصرية حاولت الضغط على عائلة الزرباوى لبيع اراضيها فى النقب لإسرائيل, فعندما كان أحمد ماهر وزيرا للخارجية المصرية, تحدث معه مسئولون إسرائيليون بشأن هذه الأراضى وهو ما دفع ماهر الى ان يطلب من كبير العائلة ان يبيع الأرض لإسرائيل مقابل اى مبلغ يشترطونه , مؤكدا – وزير الخارجية الأسبق – ان الرئيس السابق مبارك شخصيا – طلب إنهاء الأمر و الضغط على عائلة الزرباوى لإنهاء الصفقة, ايضا حاولت إسرائيل عن طريق مسئولين بالاتحاد الأوروبى مفاوضة العائلة من اجل شراء أراضيها, خاصة وان للاتحاد مشروعات تنموية كثيرة فى سيناء. المثير ان كبير العائلة المرحوم الشيخ موريد الزرباوى سافر إلى الأراضى المحتلة بشأن التفاوض مع الجانب الإسرائيلى لتمكينه من الأرض واصطحب معه بعض المستندات والصور الضوئية الدالة على امتلاكه لتلك الأرض, وبعد فشل المفاوضات لإصرار اليهود على شراء الأرض بأى ثمن عاد الشيخ «موريد» ليوكل الدكتور نبيل حلمى أستاذ القانون الدولى والعميد السابق لكلية حقوق الزقازيق , الذى قام برفع دعوى قضائية ضد ارئيل شارون نفسه . مرة اخرى عاودت السؤال عن المستندات والأوراق الاصلية, فعلمت انها محفوظة بخزانة سرية داخل بنك شهير بالقاهرة, وهو أمر لا يعرفه احد سوى عدد محدود من ابناء العائلة. المؤسف – والكلام لأحد أفراد العائلة – ان مسئولين من حركة فتح التقوا بعض افراد عائلة الزرباوى للتفاوض معهم بشأن بيع تلك الاراضي لإسرائيل مقابل اربعة مليارات دولار تحصل فتح على ثلاثة أرباعها, مقابل مليار دولار للعائلة, وهو ما رفضه ابناء العائلة, بينما تقدم رجل الأعمال المحبوس حاليا احمد عز امين تنظيم الحزب الوطنى المنحل لشراء العقود والحجج من العائلة لكنهم رفضوا ايضا, خاصة وان عز لم يفصح عن سر رغبته فى شراء الأرض, وسط هذا الكم من المعلومات و الأوراق , خرج احد الشبان ليلقى على مسامعى «قنبلة مثيرة للفضول» , فقال : ايش رأيكم انروح انطل على الارض؟.. مبهوتا قلت : قصدك ايه.. نروح غزة؟!.. رد بالإيجاب فلم أتردد فى خوض المغامرة المثيرة بعد ان قال الشاب بان الأمر لن يستغرق كثيرا حيث يمكننا استخدام أحد الأنفاق المؤدية للنقب, وبالفعل , بعد اجراء عدة مكالمات هاتفية توجهنا الى مدينة رفح داخل سيارة ذات دفع رباعى وهناك تقابلنا مع عدد من الرجال الذين ادخلونا من منزل لآخر حتى وجدنا انفسنا امام فتحة غريبة انزلقنا داخلها لنسيرعلى ارجلنا بعض الوقت , لكن الغريب ان مرافقينا طلبوا من زميلى المصور عدم التقاط صور داخل النفق فلما استفسرت عن السبب قالوا لى ان جهة امنية تعرف كل الأنفاق الموجودة برفح ولو عرضت صور لها سيتسبب لهم ذلك فى مشاكل امنية . خلال خمسة عشر دقيقة كنا قد وصلنا الى نهاية النفق, وهنا صعدوا بنا واحدا تلو الاخر بالسحب لاعلى عن طريق خطاف حديدى , وهو الأمر الذى تكلف مائة دولار لكل واحد منا, وعلى السطح استقبلنا عدد من الملثمين تابعين لحركة حماس التى تسيطر على تلك المنطقة , وكانوا على علم بالزيارة الخاطفة . الغريب ان رجال حماس أكدوا لى امتلاك اكثر من عائلة مصرية لمساحات واسعة من ارض النقب, وحملونى برسالة انشرها عبر «فيتو» الى مسئولى حركة فتح ملخصها « لن نسمح لكم ببيع الأرض» وطلبوا من العائلات المصرية بيع تلك الأراضى لهم – أي الفلسطينيين – تقوية وتدعيما للقضية الفلسطينية! سريعا التقطنا بعض الصور لبعض تلك الاراضى التى يمتلكها مصريون وفقا لتأكيدات رجال حماس قبل ان نعود بنفس الطريقة الى رفح ومنها الى العريش حيث ديار عائلة «الزرباوى» . وعلى طريقة «الفلاش باك» راح ابناء العائلة يحكون القصة والتى تبدا بخروج الزرباوي الجد مع عائلته من العريش عام 1918 للعمل في تجارة المواد الغذائية بفلسطين، فالعائلة معروفة بالعمل فى التجارة, و عدها قاموا بشراء 1250 فدانا.،في منطقة الخلصة بفلسطين. وعقب اندلاع حرب 1948، عاد معظم افراد العائلة إلى العريش، وخلال العدوان الثلاثي علي مصر1956 واجتياح القوات الإسرائيلية لسيناء، فوجئت العائلة باثنين من أبناء قبيلة شهيرة يطرقان باب العائلة يرافقهما اثنان من العسكريين الإسرائيليين، وطلبوا من عميد العائلة انذاك الحاج سليمان الزرباوى أوراق وحجج الارض مقابل المبلغ الذي يحدده، لكنه رفض فهددوه ورحلوا..وفي حرب 1967 دمرت الطائرات الإسرائيلية منزل عائلة الزرباوي دون منازل العريش عقابا لهم على الامتناع عن بيع الأرض. عن السرد توقف أبناء «الزرباوى» لكن القصة لم تنته بعد, فالأرض فلسطينية وملاكها مصريون لكنها مازالت تحت الاحتلال , والنصف الآخر من الحقيقة هو أن بيننا من يساعد إسرائيل على طمس الهوية العربية وبيع الأرض لهم.