باحث مصرى يتهم المؤرخ العربى ب«سرقة إخوان الصفا».. «للبشرية حياة فيها هذا» أبسط ما يقال عن مقدمة ابن خلدون، التي أصبحت واحدة من أشهر المقدمات الموسوعية التي خلدها التاريخ العالمي، لما لها من بصمات متشبثة ب«الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب». المقدمة أغرقت تفصيلا في تاريخ الأمم وتتطورها لتقتنص عن جدارة لقب «المقدمة الخالدة» بكتاب العبر لصاحبها عبد الرحمن محمد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، المؤرخ العربى التونسى المولد (الأندلسى الأصل)، والتي أبهرت العالم وظلت من أعمدة التراث الأدبى والفكرى الإسلامى لقرون طويلة. ظلت هذه المقدمة لسبعة قرون يتسلمها الفلاسفة والمؤرخون جيلا بعد جيل كنموذج متكامل للمعرفة إلى أن جاء المؤرخ الإسلامى المصرى الدكتور محمود إسماعيل في أواخر القرن العشرين ليحطم هذه الهالة الأسطورية معلنًا ما أسماه «نهاية الأسطورة». في مطلع عام 1996، قدم الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامى دراسة بحثية تحت عنوان «نهاية الأسطورة» يبرهن فيها بالوثائق والأدلة انتحال ابن خلدون مقدمته الشهيرة عن مجموعة من الزهاد عاشوا قبل زمانه ب400 عام، جاءوا في منتصف القرن الرابع الهجرى يعرفون باسم «إخوان الصفا». قد تكون هذه الدراسة ليست الأولى من نوعها لكن ذاع صيتها ربما لبراعة الباحث في سرده للإشكالية واستخدامه قرائن جديدة أكثر دقة وتركيزًا عمن سبقه، ويرى البعض فيها قسطًا وافرًا من الإقناع والالتزام بقواعد النقد التاريخي. «إسماعيل» أرجع انتحال ابن خلدون مقدمته إلى عدة عوامل أبرزها: أن طموحه السياسي نحو الإمارة فوت عليه فرصة التفرغ للعلم وطوح به في أحضان الانتهازية والوصولية، وتأثير الإخفاقات التي تعرض لها، وما حل به وبأسرته من اضطهاد ومصادرة وسجن في تخليق «شخصية غير سوية» دفعها الإحباط والفشل السياسي إلى احتراف السطو والانتحال المعرفى كوسيلة لإثبات الذات ومعانقة النجاح والشهرة في ميدان العلم والمعارف. كما استند في دراسته إلى قصر المدة التي استغرقها ابن خلدون في تأليف مقدمة بهذه القيمة، والتي لا تتجاوز الخمسة أشهر لكنه يراها مدة مناسبة للسطو والسرقة على حد وصفه، فضلا عن «كونه مالكيًا أشعريًا ذا فكر تقليدى يتسم بالجمود والتخلف، يسعى إلى توظيف العقل في تبرير النقل، وأنه كان مؤرخًا شعوبيًا من الدرجة الثالثة جعل العصبية والدين الأساس في تفسيره للتاريخ»، على حد قول الباحث. وفى عرضه ل«قضية السرقة» سلط الباحث الضوء على الإسهامات التي قدمتها جماعة «إخوان الصفا» للبشرية، وأخذها عنها عبد الرحمن محمد بن خلدون، متمسكًا بأنه استغل عدم اهتمام المفكرين بالتعريف بهم وبسيرتهم الذاتية، كونهم جماعة دينية سرية تأسست مع بدايات العصر العباسى الثاثى قوامها مجموعة من النخبة المفكرة المكونة للطبقة الوسطى آنذاك. أنتج هؤلاء 51 رسالة، تضمنت الاستشراق بنظرية التطور الدارونية، وغلبة القانون المنظم للأمم وتعاطفهم مع الطبقة العاملة والفئات المضطهدة، وتحرير المرأة، وأسبقيتهم في إبراز تأثير البيئة الجعرافية والأحوال الاقتصادية في الأخلاق، وجميعها أمور سبقوا بها ماركس ولمومتسيكو بقرون طويلة، وتفوقوا بها على ابن خلدون في مقدمة كتابه «العبر» باستثناء أنظمة الحكم المبحث الخاص به. المؤرخ العربى الدكتور على الوردي، وافق الرأى السابق، فيما يتعلق بمنطلق ابن خلدون ونقله المعارف التي أسستها جماعة «إخوان الصفا» في رسائلها، غير أن الفرق بينهما أن الباحث المصرى أسهب في مقارنة النصوص بين كتابى ابن خلدون وإخوان الصفا، وشدد على سطو ابن خلدون وسرقته أفكار إخوان الصفا. أما الدكتور الوردى فاختصر ذلك، واستعمل مصطلحات أهدأ وأقل حدة من مصطلحات «إسماعيل» تجاه ابن خلدون مثل «استمد أو أخذ أفكاره، اقتبس أو نقل» ملتمسًا العذر لابن خلدون بل دافع عنه في هذا المجال حين قال: «ليس هذا قدحا لابن خلدون أو انتقاصا من عظمته الفكرية، بل إنه اقتبس تلك الأفكار كى يؤلف منها نظريته الجديدة، على منوال ما يفعل المخترع حين يركب اختراعه الجديد من مخترعات سابقة». على الجانب الآخر، رفع مفكرون وعلى رأسهم المفكر والشاعر العربى مهتدى مصطفى غالب الكارت الأحمر في وجه من هاجموا «ابن خلدون»، واستندوا إلى أن الحضارة البشرية بدأت منذ وعى الإنسان تتأثر وتأثر ثقافيًا وفكريًا فيما هو سبق وحاضر وآت. «غالب» رد على الباحث محمود إسماعيل قائلا إنه «لا عيب أن يتأثر ابن خلدون بهؤلاء الزهاد (إخوان الصفا) في كتاباته مادام أضاف عليها تطورها وفقًا لفكره وزمانه»، مشيرًا إلى أن كثيرًا من مفكرى وأدباء المسلمين الذين تلوا عصر جماعة إخوان الصفا تأثروا بهم واقتبسوا منهم وأضافوا إليهم. ولفت إلى أن أغلب مفكرى ودعاة المذهب الإسماعيلى الشيعى ك»أبو حاتم الرازى وأبو يعقوب السجساتاني» متأثرين بإخوان الصفا، وكذلك ابن سينا أخذ عنهم نظرية هبوط النفس وصعودها، وابن رشد في كتابه الشهير فصل المقال، وابن الطفيل في القص الرمزي، والغزالى في النهج الموسوعى والفارابي، وكذلك المتنبى و«أبو العلاء المعري». بل أكد أن ابن خلدون لم يكن بمنأى عن ذلك التأثر، فقد أخذ عنهم أسس علم الاجتماع من «طبقات البشر، وتصنيف الصنائع، وطبائع الأمم وسجاياها، وأعمار الدول وأدوراها، ومفهوم السياسة، والأسس الفلسفية للفكر السياسي، والدولة الدينية»، موضحًا أن إخوان الصفا أنفسهم تأثروا بمن سبقهم من حضارات وشعوب «كالفلسفة الإغريقية القديمة في المشرق والفكر الفلسفى الهندى والصينى والفارسي، وكذلك بعض المدارس العربية قبل الإسلام». «مهتدى» استنكر كذلك الربط بين حياة ابن خلدون وطموحاته السياسية المتقلبة على النحو الذي فسره الدكتور محمود إسماعيل، القائل إنه لا يستقيم ولا ينسجم مع طبيعة العالم الباحث عن الحقيقة، موضحًا أن ذلك كلام عار من الصحة بدليل أن كثيرًا من علماء المسلمين اشتغلوا بمعمعة السياسة وانخرطوا في تقلباتها وتموجاتها كالإمام ابن حنبل والإمام «أبو حنيفة» والإمام الشافعي، وكذلك معاصره ابن الخطيب. واستشهد ببعض الحوليات التي تروى أن الإمام مالك قد ضرب حتى انخلعت كتفه بسبب فتوى فسرت على أنها سحب لبيعة أبى جعفر المنصور، قائلا: «كل هؤلاء وغيرهم اشتغلوا بالسياسة وخلفوا لنا مصنفات مهمة في حقول العلوم والفتاوى والشريعة». الباحث التونسى الدكتور عبد السلام المسدى أشار بدوره إلى أن ابن خلدون لم يسط على إبداعات إخوان الصفا الفكرية والعقلية، كما يعتقد محمود إسماعيل وآخرون في أطروحاتهم حول زيف شخصية ابن خلدون الفكرية، وإنما اهتدى فقط ببعض النصوص أثناء رحلة بحثه من ضمنها نصوص إخوان الصفا، معتبرًا إياها بمثابة ضوابط مؤثرة في لغته ذاتها، ويفترض أن للمقدمة جذورا لو تم السعى لاستقصائها لتحددت مراجعها في ميراث الفكر العربى الذي تأثر به ابن خلدون طيلة حياته. وفى بحث دقيق للمؤرخ الإسلامى التونسى الدكتور محمد الطالبى عن جذور النظرية الارتقائية وأثرها في مقدمة ابن خلدون، أقر بتأثره في مقدمته تأثرً كبيرًا برسائل إخوان الصفا ومؤلفات ابن مسكويه خاصة في نظرتهم حول النظام الكوني، واهتدائه ب«الفوز الأصغر – تهذيب الأخلاق» كاثنين من مؤلفات ابن مسكويه. «الطالبي» ذكر أيضًا أن ابن خلدون اقتبس جل آرائه من ابن مسكويه الذي أخذها بطبيعة الحال من إخوان الصفا، وأنه جمع هذه الآراء في الفصل الذي عقده لتفسير حقيقة النبوة، مستطردًا بقوله: «نسجل لابن خلدون أمانته بتأكيده أنه كان يعتمد في نظريته على ما شرحه كثير من المحققين السالفين، يأتى كل من إخوان الصفا وابن مسكويه في المرتبة الأولى». ما بين هذا وذلك، تظل مقدمة ابن خلدون على رأس الملفات المثارة حول السرقات الفكرية والأدبية، خلال العصر الإسلامي، موقع جدل بين الباحثين حول العالم أجمع ممن يهتمون بالتراث الفكرى الإنسانى لما لهذه المقدمة التاريخية وصاحبها من ثقل وقيمة أثرت لقرون عديدة في تشكيل وعى ووجدان الحضارات الإنسانية التي تليها.