قال عنه المؤرخ أرنولد تويني: "لقد ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ، هي أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم". وإحياء لذكري رحيله، تحاورنا مع عالم الاجتماع الدكتور "أحمد زايد"، الذي تحدث عن ابن خلدون قائلا: "عاش ابن خلدون في القرن الرابع عشر، ونشأ بتونس في فترة حكم الدولة الحفصية في عائلة أندلسية هاجرت من إشبيلية، وهي أسرة اشتهرت بالعلم والجاه وساهمت في تدريسه الكثير من العلوم وتطوير معارفه منذ الصغر، وفي سن العشرين انتقل إلى مدينة فاس المغربية مع عدد من العلماء الذين تأثر بهم فتعلم منهم العلوم العقلية مثل الفلسفة والمنطق، وكانت هذه الفترة من أهم الفترات التي شكلت وعيه وزادت من معرفته وبدأت فيها حياته السياسية، حتى قرر ابن خلدون أن يتركها خاصة بعد موت والديه غرقا في البحر، ووفاة عدد كبير من أساتذته وعلمائه بمرض الطاعون، فاعتزل الحياة وعكف على دراسة العلوم الإنسانية بقلعة بني سلامة بالجزائر، وكان ابن خلدون أول من أشار في العالم كله إلى علم جديد اسمه علم العمران البشري، ودرس الأسس الجغرافية والسياسية لهذا العلم، ووضح مراحل تغير العمران من البداوة إلى الحضارة وعمليات الصعود والهبوط الحضاري. وعن حياته السياسية قال زايد: "كان ابن خلدون يدخل في الكثير من المؤامرات والدسائس من أجل الوصول للمناصب والتقرب من الحكام، وهو نفسه اعترف بذلك، كما أن هناك العديد من السقطات في حياته، ومنها تآمره مع الطاغية المغولي "تيمور لنك" الذي احتل سوريا عام 1401، وعندما جاء إلى مصر تقرب من الولاة المماليك، فتولى القضاء الملكي في آخر حياته، وظل قاضيا ملكيا حتى توفي بمصر يوم 19 مارس 1406، ولكن مؤامرته السياسية لا تقلل من إنتاجه الفكري ودوره في إثراء الفكر الإنساني عامة، فيكفيه كتابه "العبر"، والذي يعد واحدًا من أهم الأعمال الموسوعية في تاريخ الفكر البشري، وهو يقع في سبع مجلدات يتصدرها كتاب "المقدمة"، والتي تحتوي على نظريات في الكون والدولة والعمران. وكان لأستاذ التاريخ د. محمود إسماعيل رأي آخر في الإنتاج الفكري لابن خلدون، فقد ألَّف عدة كتب انتقده فيها، وهي "نهاية أسطورة - إخوان الصفا رواد التنوير في الفكر العربي - هل انتهت أسطورة ابن خلدون - جدل بين المفكرين العرب والمستشرقين)، ويوضح إسماعيل أسباب انتقاده لابن خلدون قائلا: "قيل إنه المؤسس الأول لعلم الاجتماع، وأنه سبق كل المفكرين الغربيين حتي أوجست كونت، كما قيل إنه فيلسوف التاريخ، وإن مقدمته الشهيرة التي كتبها هي من أهم ما أنجزه الفكر البشري، ولكن هذه المقدمة العظيمة لم يكتبها ابن خلدون، بل اقتبسها من رسائل جماعة "إخوان الصفا"، وهي جماعة تكونت في القرن الثاني الهجري، وظلت موجودة حتي نهاية القرن الخامس الهجري، وكانت هي النخبة المفكرة التي طورت الفكر الإسلامي والمناهج العلمية والتربوية في عدد من الرسائل، وعندما اطلعت علي فكر هذه الجماعة ومقدمة ابن خلدون، وجدته اقتبس كل أفكاره المستنيرة بحرفية شديدة من رسائلهم، كما أن إيميل ماسكريه عندما قرأ مقدمة ابن خلدون قال إنه لا يمكن لمن كتب هذه المقدمة العظيمة أن يكتب هذا التاريخ المتواضع جدا، وهناك الكثير من الأدلة التي تؤكد ما أقوله، منها أن كل رسائلهم كانوا يكتبون فيها: "اعلم يا أخي، أيدك الله"، وهي الجملة الخاصة بالجماعة، ولكن ابن خلدون في مرات كثيرة كان ينسي ويكتبها، كما أن الأفكار العظيمة التي ذكرها في مقدمته لم يشر إلى مصدرها، وعميد الأدب العربي "طه حسين" شكك في مقدمته، وأكد ما قاله ماسكريه، وانتقده أيضًا "محمد عابد الجبري" من خلال دراسته لمفهوم العصبية والدولة عند ابن خلدون، وقال أن نبرر لعلمائنا كل ما ارتكبوه من أخطاء. ولم تكن اقتباساته السبب الوحيد الذي جعل د. إسماعيل ينتقد ابن خلدون ويكتب عن نهاية أسطورته، فقد قال: إن العالم أو المفكر لا يمكن أن يؤسس لنظريات في الفكر بدون استخدام العقل، ولكن ابن خلدون كان يشكك في العقل واعتمد على الفكر الأشعري، وهو فكر تلفيقي يوفق بين العقل والنقل، كما أنه كان يقول إن الدولة الكبرى لكي تقوم لا بد وأن ترتكز على العصبية والدعوة الدينية والتفسير التاريخي القائم على العصبية أو الدين. ويتابع حديثه قائلا: "ابن خلدون ذكر أنه كتب مقدمته في خمسة شهور بعد أن جاءه وحي من الله، والأفكار العظيمة لا تأتي بالوحي ولكن بالدراسة والتفكير العقلي". وأنصف "إسماعيل" ابن خلدون في النهاية فيما كتبه من تاريخ وخاصة تاريخ المغرب العربي، حيث قال: "لا شك أن ابن خلدون كان مؤرخا عظيما، بصرف النظر عن أخطائه، ولكنه أفضل من كتب تاريخ المغرب العربي والمشرق، ولا يزال مرجعا مهما لكل المؤرخين حتى الآن".