من ملامح المرحلة الانتقالية أو الانتقامية (الانتقام من الثوار)، أنها غير حاسمة، تتنافس القوى السياسية المختلفة لصياغة الفترة القادمة بين مسارى «الثورة إصلاحية» أو «الإصلاح ثورى». تريد الجماعات الراديكالية من كل التيارات ضمان انطلاقة مثلى للمسار الديمقراطى من خلال الاحتجاج السلمى (وهو حق يكفله القانون وليس جريمة)، أما القوى المهادنة، التى تشمل أيضا تيارات ليبرالية وإسلامية أغلبها قوى قديمة منظمة، فترى أن العمل على أرض الواقع السياسى أفضل. ويبارك ذوو السلطة بطبيعة الحال هذا الاتجاه الإصلاحى، الذى لا يتمادى فى تحديهم، مطالبين الشباب بالانخراط فى الحياة السياسية الحزبية الرسمية، كأن لهم فرص محترفى اللعبة السياسية القدامى، مع بقاء سياسة «التربيطات من تحت الترابيزة»، بدلا من استثمار اللحظة الثورية لإيجاد قطيعة مع الماضى وبداية ناصعة على قواعد جديدة من الشفافية. تكشف نظرة للوراء لاستيعاب أحداث الأسابيع الماضية عن شواهد تلقى القوى الاحتجاجية ثلاث ضربات موجعة أضعفت من مصداقيتها فى الشارع، أولاها أحداث العباسية، ثم جمعة «الوحدة أولا»، ثم فض الميدان بالقوة، رغم وعود المجلس العسكرى بأن ميدان التحرير لن يفض بالقوة، بالإضافة إلى عودة لنبرة عامة بأن «الشعب مابيعرفش أو مابيفهمش»، رغم أنه أبهرنا جميعا، واستغلال قلق المزاج العام على أكل العيش وانشغاله بالكنافة والمسلسلات والعودة إلى المدارس، عدنا لسياسات فصامية تجمع بين أسلوبى العصا والجزرة، ويرتبط بذلك اقتحام المجال الإلكترونى لتخوين حركة 6 أبريل الوطنية وغيرها عبر المواقع الاجتماعية، مما يشى بعمل «لجان» إلكترونية متعددة وليست لجنة واحدة فقط، وبعد أن كان المواطن «يفطر أمل ويتعشى بالإحباط» كما تقول أغنية «استعباط» لمحمد المهدى، أصبحنا نفطر إحباطا ونتعشى إحباطا، والدنيا صيام أساسا فلا نفطر إلا مرة واحدة، وغابت الاستجابة الفورية أو الاستباقية لمطالب الثورة، ليترك تحقيقها لعملية الإصلاح الحكومى الممتدة. يوحى ذلك بوجود خطة ليفقد الشعب رغبته فى التغيير الجذرى، بل ربما زراعة الخوف والشك فى قوى الثورة، إذ يراد لهذا الشعب أن يفقد ثقته فى نفسه حتى يظل خانعا وذليلا، وهذا أسوأ ما يمكن لأن الوعى نصف المعركة، وفى متوازية أورويلية (نسبة إلى الأديب جورج أورويل مؤلف روايتى «مزرعة الحيوان» و«1984» حول كيفية تحول النظم إلى ديكتاتوريات ودور الدعاية فى قلب الحقائق)، نجد الخطاب السائد اليوم معكوسا: صار المطالبون بالديمقراطية، وهم طليعة ثوار 25 يناير، بلطجية، وأصبحت المظاهرات ديكتاتورية الأقلية، وسير المرور يصبح استقرارا، وأهالى الشهداء يتسولون صك شهادتهم، ويتحول الأمر إلى مساومة ماسخة لتصنيف الشهداء حسب مكان قتلهم، ليصبح من قتل أمام قسم الشرطة بلطجيا، حتى وإن كان مارا بالصدفة، وكأن عقوبة البلطجة هى الإعدام الفورى دون محاكمة. هدف ذلك أن يخنق المصريون المناخ الثورى بأنفسهم، على اعتبار أنهم يصيدون الجواسيس، وأسفرت موقعة العباسية عن خسارة الثوار الراديكاليين للشعب لأنهم ببساطة لا يحظون بمصداقية المجلس العسكرى، ساعد على ذلك تحزب التيارات الأيديولوجية وتشرذم وهمى وغباء استراتيجى من جانب بعض الثوار ذوى المطالب النبيلة، ينال الآن بعض المراجعة المطلوبة للجوء إلى أساليب غير صدامية، يرى البعض أن محاكمة مبارك دليل على التوجه الصحيح، إلا أنها رغم أهميتها تحولت إلى مسلسل «بص شوف المحاكمة بتعمل إيه»، كما أنها تسير فى اتجاه متوقع لتفكيك شرعية نظام مبارك لإرساء شرعية نظام جديد. يعد ما سبق مصدر قلق، لأن التحول الديمقراطى لا يبنى على أكاذيب أو تجريم ما ليس بجريمة «الاعتصام السلمى بشروط منظمة حق لكل مواطن»، كما أن التذرع المزعوم بالأغلبية الصامتة فى ظل غياب برلمان منتخب شرعيا لا يعبر سوى عما يتصور أى شخص أنه رأى الأغلبية، لأنه فى الحقيقة توجد «أقليات صامتة»، ولا تحظى أى قائمة كاملة من القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بأغلبية مطلقة من الشعب. لم تعد الأمور بالسيولة السابقة وإن كان لا يزال الفضاء العام ساحة للجدل والحركة، فالديمقراطية ما هى إلا نقاش وتبادل المشورة بين أطراف مختلفة لإيجاد حل توافقى لأجل الصالح العام، ولكن السؤال المطروح: هل ينجح التغيير التدريجى طويل المدى فى غرس ثقافة ديمقراطية وحقوقية أمام طوفان أنشطة أعداء الديمقراطية فى الواقعين، الحقيقى والافتراضى؟ هل تستطيع الأساليب الثقافية والتعليمية، بافتراض إخلاص النيات، إنجاز ما لا تقدر أساليب الاحتجاج الشعبية على فعله؟ صحيح أن النظام قد يتطور ليصبح أقل سلطوية وأكثر عدالة، ولكن يشير استقراء الواقع أيضا إلى أنه لن يكون ديمقراطيا بصورة كاملة كما كان يحلم ثوار التحرير، كما أن إرساءه والحفاظ على مكتسبات الثورة رهن اليقظة والرقابة المستمرة. الحذر كل الحذر من تحجر الاستبداد فى موقع السلطة كالنبتة التى يصعب اقتلاعها كلما توغلت فى التربة، الحذر، فالثورة ليست نهائية.