المستشار أشرف البارودي: نظلم أنفسنا إذا تناولنا الأمور بمعزل عن سياقها العام. السياق العام هو أن جمهورية مصر العربية لم يعد لها صاحب، الكل يتقاتل ويتدافع ويتزاحم من أجل الحصول على حتة منها لنفسه تضمن له نصيبا كويسا جدا من فتة الحكم ولحمة رأسه، تورتة الحكم، شهوة الحكم وحلاوته ولو بالضرب تحت الحزام. أتذكر مقولة قالها يوما الفيلسوف نيتشة، وتكررت فى رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»: «من الذى قال إن الثورات يخططها الدهاة.. وينفذها الشجعان.. ثم يكسبها الجبناء؟!». لم يعد هناك شىء يدعى «إرفع راسك إنت مصرى»، فأصحاب هذه المقولة أسقطوا النظام ثم عادوا إلى بيوتهم وتركوها للدكتور على السلمى، ذلك الذى الذى لا يملك، ليعطيها «مقشرة» لمن لا يستحق، وبدعوى أن الأمر مطروح للمناقشة!! أنا أعتذر، فالأمر ليس مطروحا لأى مناقشة، لا هو ولا بدعة المبادئ فوق الدستورية وتحت الدستورية. حزب «المتمسحون» فى الثورة ممن يدعون عن غير حق أنهم أصحابها، أصبحت هناك مقولات جديدة، إرفع راسك إنت سلفى.. إنت إخوان.. إنت قبطى.. إنت مسيحى.. إنت مسلم.. إنت ليبرالى.. إلخ. لا يشفع محاولات تعديلها أمام النية البينة الظاهرة الواضحة وضوح الشمس، التقاتل على السلطة، التى من أجلها تحالف الإخوان مع المجلس، فلما تجرأ المجلس وراح يبحث لنفسه عن سلطة يستأثر هو بها انفض التحالف بعنف وتحول الحلفاء فجأة إلى خصوم يهددون بالثورة ليس من أجل مصر، ولكن من أجل حتة اللحمة التى اقتطعها الدكتور على السلمى للمجلس، والتى أراد المجلس العسكرى أن يختص نفسه بها من دون الكل. صراع مصالح بحت لا يثير سوى الرغبة فى التقيؤ، وكأن مصر نامت على جنبها واشتغل مسلسل النهش فى لحمها على أشده والأمر مطروح للمناقشة!! بينما أصحابها الحقيقيون خارج الصورة. الشباب النقى الطاهر الذى لا يفهم فى أحابيل السياسة وقرفها. الشباب الذى خرج ليواجه الموت بينما أغلب السادة الساسة يتفرجون فى انتظار الغنائم. المسلمون الذين صلوا لله فى حماية المسيحيين. المسيحيون الذين صلوا لله فى حماية المسلمين. الشهداء الذين سقطوا -ولا يزال- قتلتهم الكلاب المسعورة مطلقى السراح يأكلون ويشربون ويعيثون فسادا فى الأرض. الأولاد والبنات الذين غسلوا الميدان أرضا وأرصفة وأسوارا ودهانا، ظنا منهم فى لحظة نادرة أن مصر بقت بتاعتهم ويريدونها أحلى البلاد، اللجان الشعبية، تنظيم المرور، الغلابة الذين يكابدون من أجل لقمة العيش ويصارعون الفقر المدقع المرير ويحلمون بغد أفضل لأطفالهم لا يجىء والعالم يتفرج، لم نعد حتى نسمع عن هؤلاء الشباب بقدر ما نسمع عن بهوات هذا الزمان، البلطجية والفلول وصناع النجوم الذين يعكسون طبيعة المرحلة وتوجهاتها ليكونوا واجهة أصيلة لمصرنا العظيمة أمثال ذلك المدعو أحمد سبايدر! طبيعة المرحلة اليوم هى التقاتل على الجنين القادم أو قتله وتدجينه وترويضه، ذلك أنه وحتى الآن لا يزال المجلس العسكرى يتمتع بمزايا الحكم المطلق، ولقد نجح فى خطوته الأولى نجاحا باهرا اسمه عصام شرف ووزارته الضعيفة التى لا تتحدى سلطانه المطلق على مصر، لدرجة عدم قدرتها حتى على الاستقالة! ولكن، وبعد وقت قصير جدا سوف يبزغ فى الأفق مشروع سلطة جديدة، جنين جديد قادم فى الطريق هو مجلس الشعب، ولا يراد طبعا لهذا الجنين أن يتحول إلى سلطة موازية تنازع المجلس العسكرى سلطانه وطوارئه ومحاكمه العسكرية وحاله وماله، وإذا كان مجلس الشعب القادم سوف يتولى وضع الدستور، فما الحكمة فى أن يتولى وزير فى حكومة عصام شرف محاولة استباقه بوضع مبادئ «فوق دستورية»؟!!! مناقشة؟!! ما صفته التشريعية أصلا ناهيك بالدستورية مرة واحدة؟ بأمارة إيه؟!!! لا حل لتلك المشكلة إلا الرغبة فى أن يكون الوليد المنتظر ضعيفا مبتسرا كحكومة الدكتور عصام شرف الطيبة الطيعة الأميرة نفسها وسواء بسواء، ومن هنا جاءت وثيقة الدكتور على السلمى التى تريد استباق اختصاصات مجلس الشعب القادم وإعطاء المجلس العسكرى حق الاعتراض على ما يريد المجلس إصداره من قوانين تخص القوات المسلحة، فضلا عن محاولة تهريب ميزانية القوات المسلحة بالكامل من تحت قبة البرلمان الجديد ورقابته على البرجوازية العسكرية على القمة فى أعظم تطبيق لإهدار مبدأ الفصل بين السلطات، وليظل المجلس العسكرى دولة داخل الدولة والحاكم بأمره وقدس الأقداس ونبيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يجرؤ أحد على المساس به أو الاقتراب منه، وأهو يضربوا عصفورين بحجر واحد، مجلس الشعب اللى لازم نلحقه قبل ما يتهبل فى نافوخه ويعمل دستور بجد ويضيعنا ويودينا فى داهية، ومن بعده السيد الرئيس القادم أيضا اللى لازم يسمع الكلام ويحترم الدستور ويحلف على كده ودستور يا أسيادى حد يقدر ينطق؟! هذا هو الدستور وهذه هى الديمقراطية! والنتيجة أن مصر تروح فى ستين داهية! النتيجة الواضحة هى أن رغبة المجلس العسكرى تسليم السلطة إلى المدنيين، والتى ظل يغنى علينا بها أياما وليالى ليست إلا خرافة، وهو لا شك مصمم على ركوب البلد إلى آخر رمق. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فإذا أردت أن تتأمل فى سياق الهدف الرئيسى فسوف تفهم السر وراء إذكاء نار الفتنة بين القضاء والمحاماة أيضا، فالقضاة فى النهاية هم الذين سيشرفون على الانتخابات القادمة، ومن هنا كان لا بد من حملة موازية لتشويه القضاء وصورته وتحطيم هيبته والتشكيك فى نزاهته، حملة يراد لها أن لا تتوقف الآن، ولا أدل على ذلك من تصريح سامح عاشور الأخير بعد الصلح المزعوم بأن هناك ثلاثة آلاف قاضٍ مزور!! خلاف لغة «التحذير والتهديد والإجبار» التى أبدع فيها هو ومنتصر الزيات، والكلام الفارغ عن جناحى العدالة، علما بأنه لا يوجد سوى قضاء واحد مهمته أن يحكم بالعدل، بغير أجنحة ولا دبابيس، يقول كلمته الأخيرة لتكون الحكم، والباقى كله خصوم فى خصوم أو وكلاء عن الخصوم بما فى ذلك المحامون والنيابة العامة نفسها ولا ينتقص ذلك من احترام النيابة أو المحاماة إنما هى طبيعة العمل، بعيدا عن خرافة القضاء الجالس والقضاء الواقف والقضاء المقرفص والقضاء المتكئ والمنجعص واللى قاعد على سيفه واللى نايم على جنبه.. إلخ، وبالمنطق الهادئ لست أفهم كيف يمكن لقاضٍ يجلس على منصة ليحكم بالعدل وقف يوما أمام نظام بكامل سطوته وزبانيته بالأمس القريب أن يخيفه تهديد سامح عاشور أو يرهبه تحذير منتصر الزيات أو يقهره إجبار غيرهما؟! وهل يصلح قاضيا إن فعل؟ ما هذا الكلام الغريب؟ خلاف بث الإشاعات أن المشروع قد قنن توريث المناصب القضائية، علما بأنه جاء خلوا من ذلك تماما، خلاف تصميم المستشار أحمد الزند، ولو من الأراضى المقدسة، على الاستمرار فى مجاراة هؤلاء فى صب الزيت على النار ولو عن غير قصد وعلى طريقة ضربا بضرب، عمقا بعمق، نابالم بنابالم، علما بأن القضاء فى مواجهة كهذه هو وحده الطرف الذى لديه ما يخسره ولو ضاع لضاعت مصر، وهو بلا شك، ولمن يفهم، أرفع وأجل من أن يكون طرفا فى خصومة أو حتى طرفا فى مصالحة لدى رئيس الوزراء على طريقة المصطبة إياها، أو شريكا فى ملاسنة من هذا النوع، وعلى الفضائيات!! ومن أسف أنه فى عام 2005 كان القضاة أنفسهم، وفى أبلغ مثال للنزاهة والرقابة الذاتية هم أول من أثار مسألة التزوير وشهدوا عليه، وهم أول من صمم على كشف من تورط فيه من القضاة، ولقد حاولت بنفسى فى ذلك الوقت أن أطلب السند والدعم من إخوانى المحامين وبعض النقباء الفرعيين وقت أن كان سامح عاشور نقيبا، فوجدت أذنا من طين وأخرى من عجين ووصل بسيادة النقيب إلى حد الامتناع الصريح عن المساندة، بل وإصدار تعليماته الصريحة برفع لافتات تأييد القضاة من على حوائط نقابة المحامين وكأن الكفاح من أجل استقلال القضاء كان فى ذلك الوقت عيبة، ونزاهة الانتخابات والإشراف القضائى عليها كانا فى ذلك الزمن، زمن مبارك، سبّة، ولكن الزمان تغير وأصبح الحال غير الحال والمزورون -والعهدة على سامح عاشور- ثلاثة آلاف قاضٍ حتة واحدة، وماله! أهو كل زمان وله فرسانه !! ليس انتصارا للقضاء ولا وقوفا ضد المحامين وفيهم وبينهم أحبة وإخوة أعزاء حقا وزملاء أفاضل، بل وأساتذة أتعلم منهم، ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى هدف مرحلى وهدف نهائى سوف ينالان آخر الأمر من القضاة والمحامين معا، لأنهما يتعلقان بمصر ذاتها، مصر يا خلق الله. أما الهدف المرحلى فهو أن هؤلاء القضاة المزورين بالآلاف هم بطبيعة الحال الذين سوف يتولون قريبا الإشراف على انتخابات مجلس الشعب، والمطلوب هو أن يخرج مجلس الشعب فى أسوأ وأضعف صورة ممكنة لصالح المجلس العسكرى، ومن ثم فلا بد من توفير أسوأ الظروف الممكنة لميلاده، ولا أسوأ من التشكيك مقدما فى كل الإشراف القضائى القادم، وفى القضاة كافة والقضاء برمته، مع استعداد المحامين للحلول محل القضاء فى الإشراف، ولو بغير أجر على طريقة الأم تيريزا، بل ويتجاوز الأمر لأبعد من ذلك باقتراح سيادة النقيب أن يتولى المحامون بالمرة مهمة القضاء كله عن طريق خلق قضاء عرفى موازٍ تحكيمى مش عارف إيه تتولاه نقابة المحامين، وبلاش قضا فى مصر من أصله، خليها تروح فى داهية بلا مؤسسات بلا عك ندورها مصطبة وكله يعيش!!! الخطوة الأولى إذن هى أن يحمل المجلس الوليد فى داخله جرثومة موته قبل حتى أن يولد، ثم تأتى أخيرا وثيقة الدكتور على السلمى لتؤكد ذلك بتزويغ المجلس العسكرى من تحت ضرس السلطة البازغة الوليدة الضعيفة واستباق الدستور القادم على يديها فى الطريق، الهدف يا سادة هو تحييد مجلس الشعب القادم وقطع الطريق عليه من كل الاتجاهات والحفاظ للمجلس العسكرى بسلطاته المطلقة ليوسع خلق الله اعتقالا ودهسا وتقتيلا وتعذيبا وتكميما للأفواه واقتحاما للفضائيات وإجهاضا لرجاء كل هذه الملايين فى هذا البلد لثلاثين سنة أخرى. المجلس العسكرى الذى أدى التحية العسكرية للشهداء يوما ما، ثم دهس خلق الله بمدرعاته فى يوم آخر، تماما كما سبق وأن قلت، يحيون شهداء الثورة باليمين ويتهيئون لصنع المزيد منهم باليسار، الشىء الصادق الوحيد الذى سمعته منهم كان فى مؤتمرهم الصحفى إياه الذى قالوا فيه إن الخيارات مفتوحة، وها هم قد صدقوا وإن لم يصل خيالى إلى حد الدهس بالمدرعات على شط النيل بما لم نر أو نسمع أو نتخيل ولا حتى أيام مبارك ذاته وحبيبه العادلى ولا حاجة للسادة القناصة!! أقول للمحامين والقضاة معا ولكل المصريين، لنقف لحظة صادقة ولننظر إلى داخل قلوبنا وضمائرنا لنسأل أنفسنا، هل ما يحدث فى صالح مصر ومستقبل أولادنا؟ هل فى صالح مصر أن يكون القضاء مشوها ضعيفا مسلوب الإرادة والاستقلال؟ سوف تظل مصر ضائعة بين مطامع ذلكم وهؤلاء، هذا هو الهدف النهائى، وها قد تم إعداد المسرح لانتخابات مجلس الشعب الدامية على أسوأ ما يكون، مسلمين ومسيحيين وبينهما دم، جيش وشعب وبينهما دهس، قضاة ومحامين وبينهما فتنة، سنة وشيعة وبينهما ريبة، ليبراليين وأصحاب ذقون وبينهما تكفير، منهم من هو بذقن ولا شارب، ومنهم من هو بشارب ولا ذقن، ومنهم من هو شعر بغير ذقن ولا شارب، ومنهم من هو لا شعر ولا ذقن، ومنهم من هو شعر وذقن، والكل خاسر (فيما عدا إخواننا الحلاقين) ولا يتبقى إلا التفرقة بين من هو بنظارة ومن هو بغير نظارة. أين المصريون؟!! لعبة فرق تسد القديمة الجديدة التى نسقط فيها المرة تلو الأخرى بكل بلاهة، ولتذهب مصر إلى الجحيم، مصر المطموع فيها من الحابل والنابل إزاء ثورة لا قائد لها، مصر التى يراد لها أن تكون، لا مصر التى نحلم لها أن تكون، مصر الممزقة المتشرذمة المنقسمة على ذاتها، والتى تئن فقط لكى يسهل قيادتها بالعصا والنار والمدرعات من جهة، والجزرة بنصيب من السلطة يلقى لهذا أو ذاك، هنا وهناك من جهة أخرى، ولكن لا والله! إنى أنادى على شباب مصر وعلى ثوارها أن تجمعوا وأعدوا العدة لثورة قادمة فى الطريق، موتوا معى ويا ألف أهلا بالموت، أو نعيش أحرارا وفى الحالين فالأهم هو أن تحيا مصر. إنى أقرع ناقوس الخطر أن أفيقوا جميعا وانسوا ذواتكم وفكروا فيها وحدها، نريد بلدنا، نبنيه على أحسن ما يكون يدا واحدة، سوف نحيا جميعا على هذه الأرض بالعدل والمساواة والكفاح والبناء والجهد والعرق والأدب والاحترام ليس إلا، وعلى أحسن وأبدع ما يكون. لم يتعلم ذلكم وهؤلاء من درس التاريخ القريب ظنا منهم أن يوم 25 يناير قد ذهب وولى بغير رجعة ولن يعود، غير مدركين أن 25 يناير يتكرر مرة كل عام، وبأن الصبر قد نفد وبأن 25 يناير القادم فى الطريق يقترب وبسرعة، نحن قادمون كالطوفان والزلزال، وساعتها لن يجد هؤلاء أمامهم لا عسكريين ولا مدنيين، ولا مسلمين ولا مسيحيين، ولا إخوان ولا سلفيين، ولا قضاة ولا محامين، سيرتد كيدهم إلى نحورهم ولن يجدوا فى وجوههم سوى مصريين.. مصريين.. مصريين يهتفون هتافا واحدا يقرع آذانهم ويهز عروشهم، الشعب.. المصرى.. إيد واحدة!