من إفيهات الأبيض والأسود الشهيرة فى السينما المصرية، مشهد لا أذكر للأسف الفيلم الذى جاء فيه، لكنه قفز إلى دائرة وعيى مباشرة، وأنا أقرأ وثيقة المبادئ فوق الدستورية الجديدة. يجمع المشهد بين زعيم العصابة واثنين من معاونيه، ويدور الحوار حول تقاسم غنيمة ما على النحو التالى: المعلم مخاطبا أحد الشريكين: إنت النُّص (أى: النصف).. وأنا النُّص. يتدخل الشريك الثالث مستنكرا: وانا يا معلم؟! فيقول له المعلم مؤكدا ومطمئنا: وانت النص! فيعود الشريك الثالث مستغربا: الله! هو فيها كام نُص يا معلمى! الحاصل على الساحة المصرية ليس إلا إعادة إنتاج للمشهد السابق، لا يقل كوميدية وإن بهت سواده على بياضه فساده الرمادى. كيف؟ أقول لكم: فها هو السلمى أو غيره، يتحلق حوله وحول وثيقته ممثلو ما نظنه توجهات شعب مصر. كلٌّ يطالب وينادى ويجذب ويشد، بينما يؤكد كاهن الوثيقة لهم أن لكل منهم (النص). فإذا كنت من دعاة الإسلام السياسى والدولة الدينية فالمادة الثانية لأجلك أنت. وإن كنت من رافعى رايات العلمانية فلا تقلق، فدولة مصر (الحديثة) دولة مدنية.. ليبرالى سيادتك؟ موجود عندنا مواطنة وكفالة حريات. ديمقراطى؟ الدولة ديمقراطية. يمينى من دعاة حرية السوق والاقتصاد؟ طلبك عندنا. يسارى من المطالبين بحقوق الطبقات الدنيا؟ لدينا فى الداخل عدالة اجتماعية. قومى وعروبى ووحدوى حضرتك؟ هناك نص على أننا جزء من الأمة العربية ونعمل على تحقيق وحدتها الشاملة. استبدادى، لا تريد أن تضيع وقتك مع الجماهير الغفيرة؟ من أجل عينيك أفضنا على العسكريتارية صلاحيات مستحدثة تمنع المايل من أن يميل...! أى دستور هذا؟ وأى مصر (الحديثة)؟ الوثيقة أشبه بسوبر ماركت شعاره (نحن نرضى جميع الأذواق). عقد اجتماعى مطاطى ليس له شبيه إلا جوارب الأستك منه فيه! وإن تبنينا مثل هذه المبادئ، بعد فاصل لا مناص منه من العراك والحراك والشجار، فنحن إنما نتبنى شيئا من النوع الذى يوصف بأن وجوده مثل عدمه، لأنه سيكون هو الآخر حمّال أوجه، يؤيد أى شىء ويعارض كل شىء. مزيج من ألوان الطيف التى تنتهى إلى انعدام اللون، أو إلى لون خارج نطاق الرؤية البشرية، تحت الأحمر أو فوق البنفسجى! كيف أفهم الدستور، خصوصا أنه دستور (جديد)، لدولة مصر (الحديثة)؟ تذهب الأمم إلى وضع دساتيرها من أحد طريقين: - إما أن يكون الدستور معبّرا عن توجه طاغ وشامل ومختلف عما سبقه لدى جماعة المواطنين. ويكون الدستور حينها مصنوعا على قياس الواقع ولاحقا عليه. - وإما أن يكون الدستور تعبيرا عن توجه ثورة قامت بها جماعات وتجمعات طليعية، وهى تريد من الدستور أن يكون مرشدا للأمة نحو مستقبلها. الدستور حينها يكون موضوعا على قياس الفكرة، لا الواقع، انعكاسا للطموح وليس تعبيرا عن الحال. واقع الأمر يقول إن الطريق الأول لا يناسب مقتضى الحال. فالجسد المصرى -وأستبعد عامدا مصطلح العقل المصرى- موزع متشظٍّ: إخوان، سلفيون، صوفيون، شباب، أحزاب، نخبة، كنبة، جيش، فلول،... إلخ.. ومن ثم لا يوجد التوجه الكاسح الذى يتبنى فكرة بعينها متجسدة على الأرض. وما دامت المبادئ (فوق) دستورية، وتأتى من (فوق) فربما كان الأنسب أن نذهب إلى الدستور من الطريق الثانى، أى أن يحدد لنا الدستور هدفنا ومسار الوصول إليه، متبنيا خطا بعينه فى الفكر السياسى. وهنا بالتحديد، كما بيّنا، تفشل وثيقة السلمى. عندما هتفنا مع الثورة (الشعب يريد إسقاط النظام)، هل كنا ندرك حقا ما معنى النظام فى مصر مبارك، حتى يكون لنا معيار نحكم به على تمام سقوط النظام من عدمه، ومنهاج نستعين به فى إقامة النظام المصرى الجديد؟ لا أظن. نظام مصر فى عهد مبارك يمكن معاينة أعمدته فى ما يلى: - تبنى اقتصاد السوق الحرة فى صورته الرأسمالية المتوحشة بلا تحفظ. فالغنى يزداد غنى، والفقير يزداد فقرا، فى غياب كل وجه إنسانى للدولة: فلا إعانات بطالة، ولا حدود دنيا وقصوى للأجور، مع تسليع كل الخدمات بتزييف مجانيتها، وأوضح مثالين هما التعليم والعلاج. - اعتماد بوليسية الدولة كأداة لحماية الرأسمال المتوحش ونظامه. - تحويل المجتمع إلى جماعة مستهلكين، لا مواطنين. - الاستسلام للأجندة الغربية ورؤيتها للعالم. - الانضواء تحت مظلة العولمة المموهة بخطابها الثقافى، فى حين أنها واقعيا لا تعنى أكثر من تحويل العالم إلى طرفين فى معادلة واحدة: أقلية تحتكر الإنتاج، وأغلبية محكومة بدور لا يتجاوز كونها سوقا لمنتجات الأغلبية. - استبداد سياسى مموه بديمقراطية شكلية، وليبرالية اجتماعية أقرب إلى الفوضى. - علمانية انتقائية مشوهة نصفها دين (مناسب)، ودينية تحكم العقول وتؤجل مرحليا مشروع حكم البلاد. هذا هو النظام الذى طالب المصريون بتغييره، وهو كما ترون تلفيق فى ثوب توفيق. فهل كنا فعلا واعين بمعنى الشعار، أم أننا فقط كنا نريد (تنظيف) النظام بالإبقاء على أسسه مع تنظيفه من الوجوه والممارسات الفاسدة؟ أفكار المبادئ فوق الدستورية إياها ترجح الاحتمال الثانى، إذ إنها تبقى على كل تناقضات نظام مبارك بدون تغيير، سوى إعادة توزيع قدر ما من الصلاحيات التنفيذية والتشريعية على الأشخاص والمؤسسات. فهل هذا حقا ما كنا نريده، أم أنه خيانة للمطلب الذى ظن شعب الشهداء أنهم استحقوه بالدم؟ مسمع -وليس مشهدا هذه المرة- يقفز إلى سطح الوعى وأنا أختم مقالى هذا. فقد قدم العبقرى زياد رحبانى منذ نحو ربع قرن عملا إذاعيا على حلقات تحت عنوان (العقل زينة). فى إحدى الحلقات الساخرة عن واقع الحرب الأهلية اللبنانية، ولا نظام النظام الطائفى، قال ابن فيروز وعاصى: أول ثورة بدها تصير من أجل النظام. وتانى ثورة لتغير النظام.