«ريحتها وحشة قوى، عمرى ما شميت ريحة كده».. هكذا همست السيدة الجالسة بجوارى، لم يكن أحد غيرى مرشحا لسماع الجملة، فاعتبرت أنها تقصدنى بالكلام فسألتها «إيه اللى ريحتها وحشة؟»، قالت «المخروبة دى»، وأشارت برأسها فى اتجاه المشرحة، كانت يداها تحيطان بطفلة تجلس بيننا وتريح رأسها على ذراعى. كنا نجلس على ما يشبه «الدكة»، مكونة تلقائيا من ساقى شجرتين عريضتين، وكانت تشاركنا الجلوس أم عبده، وتضع على ساقيها طفلا أصغر من نادين الطفلة الجالسة بينى وبين أم عمرو، عرفت اسمها فى ما بعد. «هو إنتى دخلتى المشرحة دلوقتى»، سألتها. لا بعيد عنك دخلتها مرتين.. مرة جبت منها ابنى.. ومرة جبت أختى.. ربنا ما يحكم علىّ أدخلها تانى أبدا.. يوم ما دخلت أجيب ابنى نزفت من تحت، وأنا واقفة جوه المشرحة، أول ما شميت الريحة، ريحة قذرة، فضلت أنزف بعدها عشرين سنة لحد ما شيلت الرحم السنة اللى فاتت.. كان يا حبة عينى عمره 12 سنة، بس كان راجل.. كان شايلنى شيل.. كأنه يا قلبى عارف إنه هيفارقنى بدرى، البيت وقع عليه، كان راجع شايل فينو. البيت اللى قصادنا فى عابدين كان واخد قرار إزالة وصاحبه مش عايز ينفذ أبدا، لحد ما وقع على ابنى أنا، ابنى أنا بس اللى مات، كان شايل الفينو ومعدى.. قالوا لازم يخرج من المشرحة.. أمال كانوا بيدخلوه المشرحة ليه؟ دخلت جبته من جوه من يوميها ماقبلش أعدى من جنب المخروبة دى، إيه الريحة دى؟ ريحة غريبة. واختك ماتت إزاى؟ سألت. أختى جابوها هنا بعد حبيبى بكام سنة كده، مش فاكرة هى كانت حامل وسقطت، الدكتورة فى «أم المصريين» قالت لأ أنا مشتبهة فى الوفاة، وراحت محولاها على هنا، دخلت وخرجت زى ما دخلت وقالوا الوفاة طبيعية، يعنى بس بهدلة وخلاص، ولما دخلت المخروبة دى لقيت فيها نفس الريحة الوسخة. وإنتى دخلتى النهارده؟ لأ.. مانعين.. هو إنتى.. حضرتك يعنى صحفية؟ اكتشفت أم عمرو فجأة أن من حقها هى الأخرى أن تبادلنى السؤال بسؤال فأجبتها (أيوه وإنتى خالة عصام؟). قالت لأ.. أنا بنت خالتها.. معاها من إمبارح بالليل بنلف ع المستشفيات، لحد لما لقيناه فى القصر العينى، كان رايح القصر ميت أصلا.. اكتبى لى تليفونك.. أصل إحنا عندنا ظلم كتير.. ممكن يعنى لو تسمحى أبقى أتصل عليكى.. اكتبى بس تحت الرقم صحفية عشان لما أقول لحد طلع نمرة الصحفية يعرف؟! ناولتنى الجالسة إلى جوارى من الجهة الأخرى -أم عبده.. حماة أخت عصام- ورقة ممزقة، وقالت وأنا كمان اكتبى لى نمرتك، أنا معايا تليفون واحدة صحفية كانت جاية تصور عندنا مكتوب عندك فى ضهر الورقة حاولت اتصل عليها النهارده لقيت الرقم مغلق. سألتها مين اللى قال لكل الناس دى وعرفهم اللى حصل لعصام. قالت: واحد زميل عصام كلم أمه، قال لها ابنك نقلوه على المستشفى، جرينا ولفينا على كل المستشفيات، أصل الولية شقيانة عليهم، طول عمرها بتشتغل فى البيوت عشان تربيهم، ماقعدتش يوم، والمصايب عمالة تدق على دماغها، العيد اللى فات ابن ابنى اتحرق، لسه خارج من المستشفى من كام يوم، كان عيد نكد علينا، والعيد ده أهو آخر نكد. سألتها ابن ابنك إنتى؟ قالت أيوه مش قلت لك إن أنا حماة بنتها، دى تبقى ياسمين مرات ابنى اللى ابنها اتحرق على العيد، أشارت إلى السيدة الممددة على الرصيف تعانى من إغماءه بعد فاصل طويل من الصراخ تردد فيه جملة واحدة (قال لى مع السلامة يا حبيبتى).