تبدو البطالة والفقر مشكلتين حاكمتين لم يتم وضع أى مخطط واضح لمعالجتهما حتى الآن، فى ظل حكومتى تسيير الأعمال السابقة والراهنة. وكانت الموازنة العامة للدولة للعام المالى 2011/2012 مناسبة لطرح توجه الحكومة فى هذا الشأن ولو فى الأجل القصير المرتبط بهذا العام المالى، لكن الموازنة لم تعكس رؤية يمكن الاعتداد بها فى معالجة المشكلتين، واكتفت بزيادة مخصصات معاش الضمان الاجتماعى من 1.6 مليار جنيه إلى 2.4 مليار جنيه، وكلاهما رقم هزيل لا يغنى ولا يسمن من جوع، ولا يمثل سوى نسبة محدودة من الحقوق المباشرة للفقراء فى الإيرادات العامة. كما خصصت مليار جنيه لتدريب العاطلين، وكأن هذا التدريب سيؤدى لخلق الوظائف لهم، وهو أمر أثبت الواقع منذ سنوات طويلة أنه لا يحدث، وأن المتدربين يفقدون المهارات التى تدربوا عليها فى فترات الانتظار الطويلة للحصول على عمل، وأن الأجدى هو خلق الوظائف وإجراء تدريب لمن سيشغلونها، حيث يرتبط التدريب بالعمل الذى يصقل المهارات التى تم التدريب عليها. والحقيقة أن هناك عددا من المسارات التى يمكن من خلالها معالجة مشكلتى البطالة والفقر المرتبطتين معا بدرجة كبيرة، باعتبار أن البطالة تلقى بمن يعانى منها إلى هوة الفقر إذا لم يكن لديه مصدر دخل آخر غير عمله، مثل الميراث أو إعالة الأسرة. وبالتالى فإن مواجهة مشكلة البطالة تؤدى عمليا إلى حل جزء مهم من مشكلة الفقر. وسوف نكتفى هذه المرة برصد مسار واحد لمعالجة البطالة والفقر من خلال المشروعات الصغيرة التى تحول العاطلين إلى عاملين وتمكنهم من كسب عيشهم بكرامة، وتخلق من بعضهم جيلا جديدا من رجال الأعمال الذين يحققون دخولهم من العمل والكد والعلم وليس من الفساد والتسلق المالى الانتهازى على أكتاف سلطة يلتصقون بها، كما هو حال عدد مهم من رجال الأعمال الحاليين. ومن البديهى أن حصول العاطلين على عمل يساعدهم على الخروج من دائرة الفقر، يؤدى تلقائيا إلى مكافحة الفقر بكل تأثيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السلبية. لكن من الضرورى التأكيد أن المشروعات الصغيرة تتعرض للتعثر والفشل فى الكثير من الأحيان، إلا إذا توفرت لها رعاية حقيقية تمكنها من النجاح. وهذه الرعاية يمكن أن تتحقق من خلال تكوين حضانة قومية مركزية وحضانات محلية فى كل قرية ومركز ومحافظة لرعاية المشروعات الصغيرة والتعاونية، بمشاركة واسعة النطاق من شباب مصر المهموم بقضايا بلده الذى عبر خلال الثورة عن روح وطنية وبطولية عظيمة. ويتركز دور تلك الحضانات فى مساعدة الراغبين على إقامة مشروعات صغيرة على اختيار المجال الذى سيعمل مشروعهم فيه، من خلال تلقى دراسات الجدوى الاقتصادية الخاصة به وتقييمها، وطرح بدائل أكثر ملاءمة وجدوى، ترتبط باحتياجات المجتمع المحلى من السلع والخدمات، وترتبط أيضا بالخامات المتوفرة فيه كأولوية أولى وليست وحيدة. ويمكن أن تسترشد تلك الحضانات فى توجيهها للمشروعات الصغيرة بقوائم الواردات المصرية لتعمل فى مجال إنتاج بدائل لها وفقا لاستراتيجية الإحلال محل الواردات، مع عدم إغفال التوجه التصديرى لتلك المشروعات الصغيرة. كما تعمل تلك الحضانات على توفير التمويل الميسر للمشروعات الصغيرة سواء من خلال أموال تخصص لها فى الموازنة العامة للدولة، أو من خلال إلحاق الصندوق الاجتماعى للتنمية بها، بعد أن فشل بفكره وقياداته منذ تأسيسه فى مكافحة البطالة والفقر، أو باستخدام جزء من أموال الصناديق الخاصة والتمويل المصرفى المُيسر، أو أموال المنح والقروض المقبولة الشروط. كما تساعد تلك الحضانات على رقابة ورعاية التزام المشروعات الصغيرة بالمواصفات القياسية لإنتاجها لضمان سهولة التسويق الداخلى والخارجى لهذا الإنتاج، وربطها بمشروعات كبيرة محلية وخارجية لتنتج سلعا وسيطة أو نهائية لها، وربطها بسلاسل تجارية محلية وخارجية أيضا لضمان التسويق والاستمرار، ومتابعتها خطوة بخطوة لضمان نجاحها وعدم تعثرها، وذلك بالتعاون مع الجمعيات الأهلية المحلية فى الأماكن التى يتم إنشاء تلك المشروعات فيها. وفى هذا الصدد فإن القرض الذى عرضه صندوق النقد الدولى على مصر بقيمة 3 مليارات دولار، وبسعر فائدة 1.5%، وبفترات سماح وسداد طويلة ومميزة على غرار القروض التى يمنحها للدول الأكثر فقرا، رغم أن مصر ليست كذلك، هذا القرض يمكن قبوله وتخصيصه لتمويل المشروعات الصغيرة بنفس الشروط الميسرة، إذا لم يكن مرتبطا بتقييد مصر بأى شروط غير مقبولة فى سياساتها الاقتصادية. وتجدر الإشارة إلى أن سياسة تركيز القروض فى الجهاز المصرفى المصرى على عدد محدود من كبار الرأسماليين، بدلا من التوسع فى إقراض المشروعات الصغيرة، قد انتهت بكارثة الهاربين بأموال البنوك لدرجة جعلت مخصصات القروض المعدومة والمشكوك فى تحصيلها تصل إلى نحو 55.3 مليار جنيه فى مارس من العام الجارى، بعد أن كانت قد وصلت إلى نحو 77.9 مليار جنيه فى أغسطس من عام 2010. وهناك عدد هائل من المشروعات الصغيرة التى يمكن إقامتها فى مصر بصورة متباينة من منطقة لأخرى حسب نوع المواد المتاحة فى البيئة والاحتياجات المحلية من السلع والخدمات، مثل مشروعات الصناعات البلاستيكية وتدوير القمامة لصناعة الأسمدة العضوية وأكياس القمامة، وورش الحدادة والخراطة وصناعة المعدات الزراعية، وصناعة الأوانى المنزلية من الألمنيوم والحديد غير القابل للصدأ، وصناعة الأبواب والشبابيك الخشب والألوميتال وصناعة الفوانيس الصاج والبلاستيك، وصناعات التذكارات السياحية من البردى والجرانيت والأحجار المختلفة والأحجار الكريمة ونصف الكريمة، وصناعة الملابس الحديثة والشعبية والتراثية والأعلام والكليم والسجاد اليدوى والآلى، وصناعة لعب الأطفال، وصناعة المفروشات والستائر المطرزة يدويا وآليا، وصناعة مفروشات السيارات، وصناعة المرايا والزجاج، والنجارة بكل أنواعها وصناعة الموبيليا من الأخشاب والمعادن بصفة عامة، وصناعة الموبيليا والأدوات المنزلية (السلال والمكانس) من جريد النخيل وخوصه ومن الحلفا، والمناحل، وعيش الغراب، والمحاصيل الطبية والعطرية وتصنيعها، وتربية دود القز لصناعة الحرير، وتربية الأرانب والدواجن والماشية، وجزارة وتجهيز وتعبئة اللحوم، وصناعات دباغة وتجهيز وتصنيع الجلود حقائب وملابس وأحزمة وأحذية، والمزارع الصغيرة للأسماك والرخويات وتنظيفها وتجهيزها وتعبئتها، وتنظيف وإعداد وتكييس الحبوب بمختلف أنواعها، وصناعة الحلوى والمخبوزات والمربى والعصائر والصلصة، وتجهيز الخضر والفاكهة وتكييسهما وتعليبهما، وصناعة المخللات، وتعليب الأسماك، وغيرها من الصناعات الصغيرة المرتبطة كما ورد آنفا بالمواد المتوفرة فى البيئة وباحتياجات السكان أساسا، فضلا عن المشروعات الخدمية مثل المطاعم وصيانة الأجهزة المنزلية والسيارات والدراجات العادية والنارية ومحطات خدمة وتموين السيارات وغيرها من المشروعات. ويمكن القول باختصار: إن إنشاء الحضانة القومية للمشروعات الصغيرة وفروعها فى كل المحافظات والمراكز والقرى، ووضع الصندوق الاجتماعى تحت ولايتها، وتخصيص أموال الصناديق الخاصة كليا أو جزئيا لأعمالها، يمكن أن يحول مصر إلى ورشة عمل عملاقة تساعد على استنهاض النمو الاقتصادى من جهة، وتسهم فى مكافحة البطالة والفقر من جهة أخرى، فهل تتخذ الحكومة القرار التاريخى بإنشاء هذه الحضانة بشروط تضمن نجاحها من أجل مصر وشعبها العظيم؟.