تواجه مصر الثورة تركة اقتصادية ثقيلة من نظام مبارك الفاسد والذي أطلق في مرحتله الأخيرة حفنة من الرأسماليين ليسيطروا علي مراكز الحكم وينهشوا المال العام ككلاب مسعورة, ويسفهوا قيم الحكم والمسئولية العامة. وكانت النتيجة هي أزمات اقتصادية اجتماعية متنوعة تمسك بخناق مصر وتستوجب تضافر الجهود والعقول الوطنية من أجل مواجهتها من أجل إعادة البناء الاقتصادي علي قواعد العمل والعلم والكفاءة والنزاهة والعدل. وضمن الأزمات الاقتصادية الاجتماعية المستحكمة التي تعاني منها مصر حاليا, تعتبر أزمة البطالة بما تعنيه من حرمان القادرين علي العمل والراغبين فيه, من كسب عيشهم بكرامة, من أهم آليات التهميش الاقتصادي والإفقار, حيث تدفع العاطلين إلي هوة الفقر والاعتماد علي الغير واستنزاف المدخرات أو الميراث في حالة وجودهما والتحول في النهاية في كل الأحوال إلي فقراء. وهناك اضطراب حقيقي في البيانات الرسمية الخاصة بعدد العاطلين ومعدل البطالة. وعلي سبيل المثال فإن هناك أخطاء ساذجة للغاية, حيث يشير البنك المركزي( النشرة الإحصائية الشهرية أكتوبر2010, ص117), إلي أن إجمالي عدد المشتغلين فعليا عام2009, بلغ23 مليون شخص, وعندما أوضح توزيعهم التفصيلي بين قطاع الأعمال العام(0.7 مليون), والحكومي(5.4 مليون), والخاص(16.5 مليون), فإن المجموع يصبح22.6 مليون شخص فقط, أي أقل بنحو400 ألف عن الرقم المعلن كعدد للمشتغلين في نفس الصفحة من نشرة البنك المركزي. ولو خصمنا عدد المشتغلين فعليا(22.6 مليون شخص) من تعداد قوة العمل وفقا للبيانات الرسمية في نفس المصدر(25.4 مليون شخص), فإن عدد العاطلين يصبح2.8 مليون عاطل تقريبا, وليس2.38 مليون عاطل كما هو منشور في المصدر نفسه, ربما بسبب خطأ حسابي ساذج بافتراض حسن النية, ويصبح معدل البطالة12.4% من قوة العمل عام2009, وليس9.4% كما هو منشور في نفس النشرة الإحصائية للبنك المركزي المشار إليها أعلاه. والطريف أنه حتي بحساب العاطلين2.38 مليون عاطل, فإن معدل البطالة يصبح9.5% وليس9.4%!! ويمكن الاستدلال علي تضارب البيانات من واقع البيانات المنشورة عن تعداد قوة العمل المصرية في تقرير مؤشرات التنمية في العالم2010, حيث يشير التقرير( ص66), إلي أن تعداد قوة العمل المصرية26.3 مليون شخص عام2008, وهو بيان مأخوذ من الحكومة المصرية مباشرة أو بعد مراجعة البيان المقدم منها بالاتفاق معها. ولو خصمنا من هذا الرقم, عدد المشتغلين فعليا عام2008 حسب البيانات الرسمية المصرية, أي22.3 مليون, فإن عدد العاطلين يصبح4 ملايين شخص, ويصبح معدل البطالة15.2% من قوة العمل وفقا لتعدادها المنشور في تقرير البنك الدولي المشار إليه. كما أن سوق العمل المصرية تعاني من تشوهات جمة, عنوانها تغول أرباب العمل علي العاملين لديهم وعدم التأمين علي غالبية العاملين(53% من العاملين غير مؤمن عليهم), وتخفيض أجورهم بصورة مزاجية دفعت العديد منهم لتفضيل البطالة علي الاستمرار في أعمال لا تغطي تكاليف الذهاب إليها والعودة منها والمصروفات الضرورية أثناء العمل, والاستغناء عنهم بلا أي تعويض. وتستدعي هذه الأزمة جهدا مضاعفا من الحكومة والأمة من أجل معالجتها وتفادي تأثيراتها المدمرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وربما تكون إعادة هيكلة الإنفاق العام وتوظيفه بصورة تساعد علي خلق فرص عمل جديدة ودائمة في الصناعة والزراعة والخدمات الحقيقية, هي عملية ضرورية لمواجهة أزمة البطالة. كما أن هناك ضرورة لإحداث تغيير جوهري في السياسات المصرفية لتتحيز لصغار ومتوسطي المقترضين وللمستثمرين في القطاعات الحيوية التي تلبي احتياجات الشعب مع تكوين حضانات قومية مركزية ومحلية لرعاية المشروعات ومساعدتها علي اختيار مجال العمل المرتبط باحتياجات المجتمع المحلي وبالخامات المتوفرة فيه كأولوية أولي وليست وحيدة, وتوفير التمويل الميسر لها ورقابة ورعاية التزامها بالمواصفات القياسية لضمان التسويق الداخلي والخارجي, وربطها بمشروعات كبيرة لتنتج سلعا وسيطة أو نهائية لها, وربطها بسلاسل تجارية أيضا لضمان التسويق والاستمرار, ومتابعتها خطوة بخطوة لضمان نجاحها وعدم تعثرها, وذلك بالتعاون مع الجمعيات الأهلية المحلية. وللعلم فإن سياسة تركيز القروض علي عدد محدود من كبار الرأسماليين, قد انتهت بكارثة الهاربين بأموال البنوك لدرجة جعلت مخصصات القروض المعدومة والمشكوك في تحصيلها تصل إلي نحو77.9 مليار جنيه في أغسطس الماضي. إن أبسط ما يحتاج إليه المواطن من حكومته هو أن يتمكن من كسب عيشه بكرامة من عمله وكده واجتهاده وهذه مسئولية الحكومة سواء من خلال ايجاد وظائف عامة حقيقية في الصناعة والزراعة والخدمات, أو تهيئة البيئة الاقتصادية بإجراءات مالية ونقدية ملائمة وعادلة وفعالة, وتقييد البيروقراطية المعوقة للأعمال والتي تضيف بفسادها تكاليف إضافية غير مرئية للأعمال, فضلا عن تعطيلها لتلك الأعمال. ومن الضروري التأكيد مجددا إلي أنه عندما تتخلي الدولة عن تعيين الخريجين في إطار التحول للنظام الاقتصادي الرأسمالي الحر, فإنها لابد أن تعمل علي تهيئة البيئة الاقتصادية لاستنهاض الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والتعاونية والكبيرة التي تخلق فرص العمل. أما من لا يجدون فرصة عمل ويتحولون إلي عاطلين, فإنه علي الدولة التي تخلت عن ضمان التشغيل وفشلت في تنشيط الاقتصاد وإيجاد الوظائف, أن تدفع إعانات لهم لمساعدتهم علي الوفاء بجزء من احتياجاتهم الإنسانية وكآلية للدفاع الاجتماعي, وكنوع من الضغط علي الحكومة من أجل العمل علي خلق الوظائف لهم. وكانت حكومات مبارك تدعي دائما أنه ليست لديها موارد لتقديم إعانات للعاطلين, وهو إدعاء مصدره التحيز الأيديولوجي, لأن تلك الحكومات نفسها تقدم عشرات المليارات من الجنيهات كدعم للرأسمالية الكبيرة في صورة دعم للطاقة والصادرات وغيرها. ولو تأملنا سلوك دول نامية وأفقر من مصر كثيرا مثل الهند وهي دولة يبلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الدخل نحو58% من نظيره في مصر, سنجد أنها استدركت هذا الأمر وأصبحت تقدم إعانات للعاطلين منذ عام2006 بواقع أجر100 يوم عمل لكل عاطل, والأمر لا يتعلق في مصر بغياب الموارد وإنما بترتيب حكومات الدكتاتور المخلوع مبارك للأولويات بصورة متحيزة أيديولوجيا تهتم بتدليل الرأسماليين الكبار من أصحاب النفوذ السياسي بالتحديد, قبل الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين. المزيد من مقالات احمد السيد النجار