لم يبدأ تفكيك إمبراطورية آل كابوون، الذى كان يحتكر ويدير تجارة الخمور المحظورة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، إلا بعد أن طالته يد العدالة باستخدام ثغرة قانونية تافهة كانت تتعلق بتهربه من الضرائب! وذلك لصعوبة محاكمته بتهم عادية يتعذر إثباتها باستخدام القوانين الجنائية غير الاستثنائية، ذلك رغم كثرة وبشاعة الجرائم التى ارتكبها لتسيير أعمال تجارته غير المشروعة، التى كانت تبدأ بالرشوة وغالبا ما تنتهى بالقتل، والتى أنكرها كلها كصاحبنا المخلوع. وقتها رغم سعادة المجتمع الأمريكى بالقبض عليه، فإن الأيام التالية لهذا أسفرت عن ظهور رجال قانون وقادة شرطة لم يتوقفوا عن العمل لصالحه فى الخفاء، رغم استنكارهم لجرائمه علانية! لأنهم كانوا متورطين معه ويدافعون فى حقيقة الأمر عن أنفسهم! كل الأنظمة الفاسدة لا تكف ذيولها عن اللعب عندما تقطع رؤوسها! ليس لأنها تدافع عن الرؤوس التى تهاوت، بل لأنها تحاول تجنب ضربات الفؤوس المتوقعة التى ستنهال عليها. عندما سقط السفاح الصربى ميلوسوفيتش تنصل قادته من جرائمه، لكنهم بذلوا كل ما بوسعهم للطرمخة عليها أمام المحكمة الجنائية الدولية. لماذا؟ لأن اكتشاف أدلة التعذيب والمقابر الجماعية التى تفضح جرائم الإبادة التى قام بها لن تدينه بمفرده بل ستجرهم معه إلى حبل المشنقة. كل المجتمعات التى يضرب الفساد بجذوره فى تربتها لا ينبغى بعد الثورات أن تنفرد بقيادتها مؤسسة بعينها مهما قيل عن نزاهتها، لأنها كانت متورطة بالصمت فى أفضل الأحوال، ومجرد إعلانها عن تأييد تلك الثورات والدفاع عن مطالبها لا يبرّئ ساحتها. فى الأسبوع الماضى كتبت فى هذه الزاوية مشهدا من نوع الكوميديا السوداء عن الكائنات الفضائية التى قتلت وجرحت آلاف الثوار، واختطفت المئات منهم ليصبحوا فى عداد المفقودين! بالله عليك كيف تعلن عن انتمائك إلى ثورة وأنت تطرمخ على جرائم ارتكبت ضدها، توجب محاكمة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ كيف تناصرها بينما تحاكم سفاحيها بالقوانين المحلية أمام المحاكم الجنائية العادية التى لا تعترف إلا بأدلة الثبوت التى يصعب التيقن منها فى جرائم القتل الفردية؟! أفهم أن الشعب يمكنه الاكتفاء بمحاكمة المجرمين أمام قاضيهم الطبيعى فى جرائم سرقة المال العام، لكن كيف تترك متهما يفلت بجريمة ارتكبها ضد الإنسانية بقتله آلاف المتظاهرين السلميين لمجرد أنها جريمة لا يوجد توصيف لها فى قانون عقوباتك المحلى؟ لا أريد الخوض هنا فى تفاصيل قانونية غيرى أدرى بها، بقدر ما يهمنى الحديث عن تقاعس المجلس العسكرى، وهو يملك كل الصلاحيات للعمل على تحقيق المطالب الرئيسية للثورة التى لن يتم أى تغيير من دونها، ومن أهمها إعادة هيكلة الشرطة بطريقة علمية محترمة لن تتحقق بالطبطبة على أكتاف القتلة والفاسدين المتورطين فى الجرائم التى ارتكبها كبيرهم بمساعدتهم، كما أنها لن تستقيم بالتعتيم على قضية القناصة التى سئمنا منها. ناهيك بفكاهة حماية المجلس للثورة، الذى لم يطلب منه أحد إجهاضها على حد قوله! والذى يطارد قائد شرطته العسكرية شبابها ويلفق التهم لهم أمام القضاء العسكرى بأساليب تخجل منها مباحث أمن دولة مبارك الغابرة، ويعلن بلا مواربة أنه يضع يده فى يد الثورة المضادة! لن أعيد على أسماعكم كل ما تقاعس المجلس عن القيام به خلال الشهور الماضية، فلابد أنكم قد مللتم مثلى من تكراره، لكننى سأتوجه بالنداء إلى المحامين الشرفاء ومؤسسات المجتمع المدنى بأن يقوموا بدورهم بالعمل على محاكمة مبارك أمام المحكمة الجنائية الدولية. مبارك وآله وأعوانه ليسوا أفضل أو أقل إجراما من القذافى وآله وأعوانه. أسمع من يقولون إن القذافى قصف شعبه بالقنابل، وإليهم أقول: ألم يقصف مبارك أعمارنا بالمبيدات المسرطنة وبالمحاصيل الملوثة بمياه الصرف؟ وبسياساته الزراعية الفاسدة التى مارسها شركاؤه الإسرائيليون ببذورهم المعدلة وراثيا لقتلنا؟ هذا غيض من فيض! هل تعلمون أيها السادة أن المصابين بالسرطانات وبفيروس الالتهاب الكبدى الوبائى تقترب أعدادهم لدينا من أربعة أضعاف سكان ليبيا بأكملها؟! أظن أن المقارنة بين النظامين الإجراميين قد تظلم القذافى. على الأقل باعتبار أن ليس على المجنون حرج! المحكمة الجنائية الدولية تستند فى أحكامها إلى وجود المتهم على رأس السلطة وقت حدوث الجريمة. تماما كما حدث فى قضية البشير. ساعتها قد يتعين على مبارك والعادلى أن يثبتا وجود القناصة الغامضين الذين أتوا من دول أجنبية، كما يدّعى محامو الدفاع عنهما. إن مجرد القيام بخطوات جادة للعمل على تقديم مبارك إلى المحكمة الجنائية الدولية قد يؤدى إلى احترام الثورة والقيام بتلبية الكثير من مطالبها، ربما كمحاولة لقطع الطريق على محاكمة قد يكون من شأنها فتح صناديق الأسرار المغلقة! انهيار إمبراطورية آل كابوون الذى لم يحكم دولة، استغرق سنوات لتقطيع أوصال الأخطبوط الهائل الذى تلعب أطرافه تحت الأرض وفوقها فى أماكن تتوقعها وفى أماكن أخرى لا تخطر لك على بال. فما بالك بأخطبوط إمبراطورية آل مبارك التى لم تسقط بعد؟ إذا كان من يعلنون انحيازهم للثورة يصفعونها بالحذاء ليل نهار بممارساتهم الظالمة، فلربما ينحازون بالفعل لنصرتها، عندما يرون بأعينهم أن قضية رأس الأفعى تتحرك لتنظرها محكمة دولية لن تتهاون فى معاقبة المتورطين معه بارتكاب جرائم فى حق شعوبهم؟ نريد دولة للعدالة والديمقراطية نستحقها، ولا نستجديها ممن يستميتون لإعادة إنتاج النظام الفاسد القديم، ويتشدقون فى ذات الوقت بمناصرتهم للثورة!