اليوم جمعة ما قبل حلول الشهر الكريم، الذى مهما كتبت الصحافة وبثت وأذاعت عن عادات الأكل والشرب والإسراف فيه، سيظل كما هو كريما ورائعا وضيفا عزيزا ينتظره الصغير قبل الكبير. ستخف وطأة النصائح التى اعتادت عليها وسائل الإعلام الحكومية المصرية البليدة، لا لأنها تغيرت، بل لأن هناك مهام أخرى يجب أن تنجزها، وفقا للمرحلة ولرغبات السيد الجديد. سيقل حتما حجم المسخ الفنى فى التليفزيون العتيق. وبذلك تكون ثورة 25 يناير قد أنقذتنا من تلوث سمعى وبصرى، دمَّر أجيالا وحط من ذائقتها الفنية طوال سنوات عديدة، وبالذات فى الشهر الفضيل. شهر رمضان الكريم يحبه الصغار والكبار، المؤمنون وغير المؤمنين. وبالتالى حولوه إلى كرنفال يؤلف قلوب المصريين بكل تنوعهم الثقافى والدينى والفكرى، بالضبط مثل شم النسيم وموالد الأئمة والقديسين والصالحين.. كل المصريين يقدسون أعيادهم وألعابهم الشعبية التى يمارسونها منذ الصغر ويتوارثونها أبا عن جد. لا يوجد مصرى لا يعرف لعبة «عسكر وحرامية». كنا نلعبها طوال السنة، ولكن هذه اللعبة فى رمضان كان لها مذاق آخر. أصول لعبة «عسكر وحرامية» ترتكز على مبدأ عدم الالتقاء وإلا فسدت اللعبة وأصبحت بلا معنى. هكذا هى أصول «اللعبة» التى ترسخت فى وعينا ونحن صغار، حتى قبل دخول المدرسة، بأن العسكر يجب أن يقبضوا على الحرامية فى «اللعبة» وفى «الحياة» أيضا، لكن من طرائف القدر، وقد يكون فى ذلك حكمة، كنا نتبادل المواقع فى «اللعبة». ولم يكن يخطر على بالنا أن ذلك يمكن أن يحدث أيضا فى «الحياة». كبرنا وفهمنا، ورأينا كيف يمكن أن يقف «العسكر والحرامية» فى خندق واحد. رأينا أيضا كيف يحرك «الحرامية» «العسكر» ويوجهونهم. ورأينا أن فكرة التناقض بين الهوية المهنية والضميرية والمعرفية لكل منهما، يمكن أن تجد شركاء يضعون لها استثناءات وتبريرات لها مرجعية دينية، التفافا على الذات الإلهية وتعاليمها الصارمة فى هذا الصدد. أما الموالد فحدث ولا حرج: من الألعاب إلى المراجيح إلى الترمس والسودانى والحلوى والذكر والشاى الساخن صيفا وشتاء والمياه الغازية والغوازى والرقص والتواشيح وذكر اسم الله وأنبيائه ورسله وقديسيه وأوليائه الصالحين. هذه هى مصر، فمن يمكنه أن يحرمها من فرحة شعبها بها وفرحتها بشعبها؟! المولد بالنسبة للصغار كان سدرة المنتهى والعيد الأكبر، وكان للكبار فيه صولات وجولات فى أمور أخرى، الكل يعرفها وهى جزء لا يتجزأ من العيد والكرنفال المصرى العظيم. كيف يمكن أن نخنق تلك الرغبة العارمة فى الحياة وحب النكتة وخفة الدم والخيال الجامح والتداخل النادر للمصريين مع بعضهم البعض بكل تنوعاتهم ومشاربهم الثقافية والفنية والدينية؟!.. جاء عيد 25 يناير والتحم المصريون فى مواجهة الاستبداد والفساد والطغيان، ولكن «اللعبة» أصبحت صعبة ومعقدة عما كانت عليه فى الصغر، وعما كانت عليه قبل العيد الكبير (25 يناير). لم تعد تقتصر على فريقى «العسكر» و«الحرامية»، أصبحت تتسع للصوص من نوع جديد، يجيدون التجارة بحلوى العيد ومكسرات الشهر الكريم وأوراده وجوهر وجوده. أصبحت تتسع لقطاع طريق يجيدون جمع كسر الرخام والضرب بالسيف وقيادة الإبل والحمير والبغال، بل ولبشر يخجل الخجل من النظر إلى وجوههم، يطلون علينا بوقاحة من شاشات التليفزيون، ليقنعونا بأن الشمس تغرب بالفعل فى الشرق، وبأن الأولاد والبنات فى ميدان التحرير «بيعملوا كده حاجات مش حلوة»، وبأن سكان حى العباسية ضربوا البلطجية!! أين كان العسكر والحرامية؟ أقصد أين أصبحت الآن لعبة «عسكر وحرامية»؟ كيف تحولت اللعبة لتصبح كما هى عليه الآن؟ بعد الاتهام بالخيانة والعمالة والعنف وتعطيل عجلة الإنتاج والربط القسرى بين (المجلس العسكرى وبين الجيش المصرى، مما يذكرنا بشعارات المنظومة السياسية والإدارية والإعلامية الفاسدة بأن مبارك هو مصر، ومصر هى مبارك) والربط القسرى الانتهازى أيضا بين الإخوان المسلمين والإسلام، بدأ استخدام مصطلح (الانقسام). فلا المجلس العسكرى ولا «الإخوان المسلمون» لديهما أى قدرة على إدراك قيمة التنوع والاختلاف، وأن حيوية المجتمع وتطوره تقوم بالدرجة الأولى على عمليات التنافس السياسى والتنوع القيمى والثقافى والمعرفى، بل والدينى أيضا، وبالتالى لا يجد المجلس أو الإخوان وسيلة للإفلات من مأزق عدم القدرة على الفهم والاستيعاب إلا توجيه الاتهامات.. إن كل ما يحدث الآن فى مصر أمور صحية مئة فى المئة. فبعد أى انعطافة تاريخية تقع مثل هذه الأمور وأكثر منها، غير أن التشكيلات المحافظة والرجعية والاستبدادية لا ترى فى ذلك إلا انقساما، وبالتالى عدم «استقرار» و«خيانة» و«عمالة». هكذا يجرى إفساد اللعبة وكسر الحدود فلسفيا وتاريخيا وروحيا وسياسيا. وهكذا يجرى التمهيد لضرب أعيادنا وموالدنا وتنوعنا السياسى والثقافى والدينى. اللعبة كانت أسهل فى الماضى، حتى لو اتفق «العسكر والحرامية» على أى شىء يسلون به أنفسهم من قبيل «رمى بلاهم» على الفتيات والفتيان الذين يحملون فانوس رمضان ويغنون «حالو يا حالو»، ولكن أن يجد العسكر والحرامية محللين شرعيين لما يفعلونه، فهذه مصيبة ولكنها كانت متوقعة!