هكذا دربتني أمي، وهكذا دربني أبي، كانت أمي هي التي تقوم بمساعدتي، بينما أبي يكتفي إما بالفرجة أو بإسداء النصائح، وأحيانا بالضحك مني إذا فشلت أو أخطأت، ولأنه يخشي أن يجرحني أو يحبطني ضحكه، كان يفرد قامته ويميل ويحتضنني، هكذا درباني، عندما بلغت السادسة، وكنت أستعد للالتحاق بالمدرسة الابتدائية، بعد أن قضيت عامين تقريبا في كتّاب الشيخ أحمد المجاور لبيتنا، أذهب إليه في الصباح، ومعي ساندوتش ولوح من المعدن المصقول، الساندوتش يستولي عليه أحد الأطفال، واللوح بعد أن يطمئن الشيخ أنني استظهرت ما عليه من كتابة، أمسحه ليكتب عليه درسا جديدا، وأعود بعد الظهر، وفي رأسي ترانيم، هي أصداء ما قمنا به. كنا بصوت جماعي، نرنم القرآن، ونرنم الأعداد، ونرنم الحروف، ونرنم أسماءنا إذا نادانا الشيخ، علي مشارف سنتي السادسة أعلن أبي أنني لابد أن أبدأ الصيام في رمضان القادم، ولما قدم رمضان كنت خائفا، هيئاني كلاهما وعلماني كيف أصوم، سأصحو معهما قبل الفجر، وأتناول السحور، آكل وأشرب فوق طاقتي، وأحرص أن أشرب قبل سماع أذان الفجر مباشرة، ثم أنام، ولأنني في السادسة فإنه مسموح لي أن أشرب الماء وقت أشاء، وغير مسموح لي أن أشتم أو اغتاب أو أتعري أمام أحد، وغير مسموح أن آكل إلا مرتين، إحداهما بعد الظهر، والأخري بعد العصر. علي ألا أكمل في كل مرة نصف الرغيف، ثم أفطر معهما عند المغرب وآكل بحريتي كانا يطلقان علي صيامي تسمية غريبة، صيام العصفور، ويقولان لي: ها يا بطل ستصوم صوم العصفور، في السنة التالية أبلغاني أنني كبرت، وأصبحت فرد حمام، ويجب ألا آكل قبل الإفطار إلا مرة واحدة إما عند الظهر، وإما عند العصر، لأنك ستصوم صوم الحمامة، وحدثني أبي عن الحمام الذي يطوف بالكعبة، ولا يملك أن يمر فوقها، لأن الكعبة موصولة بالسماء، إنه حمام الحرم، عندما تصوم ستصبح واحدا من حمام الحرم، وسيتصل قلبك بالسماء. كانت أمي تربي في البلكونة حمامها الذي تعرفه وتحبه، وكنت في أثناء صيامي أقف أمامه وأتأمله كأننا إخوة، في السنة التي تليها، قالا: لقد أصبحت كبيرا، وقادرا علي التحمل ، ساقاك أصبحتا مثل جذعي شجرة، وذراعاك مثل نايين كبيرين، وفمك اتسع، أنت الآن تشبه الحصان وعليك أن تصوم صوم الحصان، ولن تأكل إلا بعد أذان المغرب، يمكنك فقط أن تشرب في أي وقت، في السنة الأخيرة قالا: لن تشرب، أيضا تهيأ للصيام الكامل، إنه صيام الجمل. وفي كل هذه السنوات كانا يسمحان لي كنزهة أو كاستثناء بالإفطار الكامل يوم إعداد الكعك والبسكويت والغريبة، في ذلك اليوم تتفق أسرتنا وأسرة عمي وربما تنضم أسرة عمتي، ويبدأون العمل الجماعي، الرجال يجلسون علي الكنبات يشربون الشاي ويستعيدون الماضي ويصدرون الأوامر بالهدوء وعدم الجلبة، والنسوة يصبحن مثل أصابع الوقت، أمي وكانت أكثرهن نظافة ورشاقة تعجن عجين الكعك، وعمتي تفردها، ثم بواسطة كوب زجاجي وعن طريق ضغط فوهته علي العجينة المفرودة يتم تقسيمها إلي كعكات مستديرة صغيرة، نبدأ نحن الصغار في نقش السطح العلوي لكل كعكة بالمناقيش، ونرصها في صوان سوداء استعرناها من الفرن، كنا لا نحب لزوجة عمي أن تقوم بأي عمل، لأنها تمسح أنفها كثيرا بظهر يدها، وإذا انتهينا من الكعك بدأنا في البسكويت الذي نستعين عليه بماكينة يدوية، ندس العجينة في فتحتها العلوية، وندير ذراعها، ليخرج خيط طويل من فتحة جانبية، بمهارة نلتقط الخيط في أجزاء متساوية نرصها أيضاً في الصواني. ونغير بين وقت وآخر وجه الفتحة الجانبية ، من أجل أن نغير الرسوم والنقوش علي سطح البسكويت، ذات مرة وأنا أدس العجين لم انتبه إلي أن إصبعي قد قطع مسافة أطول مما ينبغي داخل الفتحة العلوية، وأنني لم أسحبه قبل أن أدير الذراع الجانبية، فكادت عقلة إصبعي أن تنفصل عن أصلها، وتحول السرور والضحك إلي جرعات رعاية وحنان لم تتوقف، عندما تكتمل الصواني نحملها إلي الفرن، وننتظرها لنعود بها، كنا نتجاوز الفجر أحيانا، وأمام الفرن كانت الفتيات يتلامحن، ويتصايحن ويهدأن ومثلهن كان الفتيان، ثم ينشغلون جميعا بالنظر والمهارشة. وكانت الفتيات الأجمل هن الأكثر التزاما للهدوء، في ليالي رمضان وبعد صلاة التراويح التي كان أبي كثيرا ما يحدثنا عنها، باعتبارها ترويحا واستجماما، والتي كان أحيانا يشكو منها إذا تصادف أن جاوره في الصلاة رجل آكل من البصل في أثناء إفطاره ما يسمح لرائحة فمه أن تفضحه، أو إذا تصادف أن عمد الإمام إلي الإطالة غير المستحبة، كان أبي يحكي نوادره وينتظر ضيوفه، فإذا أتوا قدمت لهم أمي الكنافة أو القطائف أو الجلاش. ثم قدمت التمر المنقوع أو التين، أو قمر الدين المطبوخ والمحلي بالزبيب، الضيوف غالبا ما يكونون مكتملي العدد، الرجل وزوجته وأولاده وبناته، وفي وجود النساء، كان يجيد أبي حكاية النوادر والفكاهات، وتجيد أمي النظر إليه بشهوة واستمتاع، وتنصرف أختي عنا، إلا إذا كان أحد أفراد عائلة الضيوف شابا مليحا، وألعب أنا مع البنات، ذات مرة اصطحبت روحية ابنة عم أحمد الصعيدي إلي المبني المجاور الذي لم يكتمل بعد، وتعرف كل منا علي جسد الآخر، ببراءة خالية من رغبات لم نكن أدركناها بعد، ولما كنا نعلق الزينات والمصابيح في سماء شوارعنا وحاراتنا، فقد كنا أيضا نذهب إلي أقرب ساحة واسعة حيث تقام دورات رمضانية تتسابق فيها فرق مزعومة علي بطولة الكرة الشراب. كانت الأسماء التي يختارونها للفرق تدهشنا، فريق العجل الذهبي، فريق الأسد المرعب، فريق الجوع الكافر، فريق النجوم العالية، وإذا انصرفنا عن الكرة ،حملنا فوانيسنا التي تضاء بالشموع، ومررنا علي أقاربنا في بيوتهم وأنشدناهم أناشيد، وحوي يا وحوي وحالّو يا حالّو، رمضان كريم يا حالّو، فكوا الكيس، وادونا بقشيش، يا نروح ما نجيش يا حالّو، في أول رمضان كنت أحس أن السماء بعيدة، لأنها بغير قمر ظاهر، وكنت اعتقد وأظن أن رمضان مازال صغيرا لم يكبر، وكان القمر يظهر بالتدريج في الليالي التالية ويكبر، فأظنه يقترب مني وأحس معه أن رمضان يكبر، في منتصف الشهر، تصبح السماء قريبة، والقمر مكتملا ورمضان في كامل فتوته، بعدها يبدأ القمر في الصغر والتلاشي، والسماء في الابتعاد، إن رمضان يشيخ، في آخر الشهر، يختفي رمضان ونتأهب لاستقبال طقس جديد، لاستقبال العيد، ونفكر أن رمضان هو الربيع الذي يصح أن أقول له: أيها الشيخ ربيع، ذو الثياب الخضر والوجه البديع.