«ما حدش فاهم حاجة»، جملة رأيتها مكتوبة على سيارة نصف نقل تشق طريقها وسط شوارع القاهرة، ووجدتها معبرة تماما عن وضعنا الحالى. فبعد نجاح الثورة الشعبية فى إجبار المخلوع على التخلى عنوة عن الحكم، وعدنا المجلس العسكرى بأنه سيقوم بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية ورئيس مدنى منتخب بحلول نهاية العام الحالى. ولا تزال كلمات اللواء ممدوح شاهين ترن فى ودانى «حنعمل الانتخابات البرلمانية فى سبتمبر، وانتخابات الرئاسة بعدها بكام شهر»، ولكن فجأة ومن دون مقدمات أصبحنا أمام واقع جديد مفاده أن انتخابات البرلمان ستبدأ فى آخر نوفمبر، وتستمر حتى آخر يناير. وبعد ذلك سيجلس أعضاء البرلمان الموقرون فى منازلهم، أو ربما يمارسون التدريب على العمل البرلمانى فى معهد إعداد القادة بالقوات المسلحة، شهران كاملان حتى ننتهى من إجراء انتخابات مجلس الشورى، الذى يرى قطاع واسع من المصريين أنه لا ضرورة له من الأساس فى إطار صلاحياته التشريعية المحدودة، وأنه مجلس صنعه الرئيس الراحل أنور السادات لزوم الشياكة والتشبه بديمقراطية الأمريكان، لأنه يوجد لديهم مجلس للنواب وآخر للشيوخ. وقرب نهاية مارس وعليكم خير، يبدأ البرلمان فى ممارسة مهامه. طيب، امتى الانتخابات الرئاسية لو سمحتم؟ الرد طبعا هو الشعار المكتوب على السيارة «ما حدش فاهم حاجة». فمنذ اليوم الأول للإطاحة بالرئيس المخلوع، والمجلس العسكرى لا يألو جهدا، لكى يؤكد أنه يرغب فى تقييد حجم التغيير الحقيقى فى المجتمع المصرى بعد انطلاق ثورة 25 يناير إلى أدنى درجة ممكنة، وأنه لن يسمح بحدوث ثورة حقيقية كما طالب ملايين المصريين، الذين خرجوا فى مختلف ميادين القاهرة ليحتجوا على عقود طويلة من القمع والفساد، وليطالبوا بالحرية والعدالة الاجتماعية. وقائمة الأدلة هنا طويلة بداية من التباطؤ فى إقالة أحمد شفيق، الذى عادى الثورة بوضوح واستهزأ بها، مرورا بتباطؤ مماثل فى محاكمة كبار المسؤولين، وعلى رأسهم المخلوع مبارك ونجلاه، واختيار أعضاء فى مجلس الوزراء وفى حركة المحافظين من المعروفين بولائهم للرئيس المخلوع والأسوأ وفقا لنفس المعايير القديمة القائمة على تقسيم هذه المناصب بين لواءات الشرطة والجيش، وكذلك استمرار المحاكمات العسكرية، ونهاية بتوسيع صلاحيات قانون الطوارئ، الذى كان قد وعد المجلس العسكرى بإلغائه قبل الانتخابات البرلمانية، وقوانين الانتخابات الأخيرة التى تمسكت بإبقاء ثلث مقاعد البرلمان متاحا لأعضاء الحزب الوطنى السابقين عبر النظام الفردى وسط مقاومة شديدة لإصدار قانون العزل السياسى لكبار قيادات الحزب المنحل المعروفين بفسادهم والمساهمة بشكل مباشر فى تزوير الانتخابات. وعندما نتحدث عن المجلس العسكرى وصناعة القرار فيه، فلا بد أن يكون الحديث موجها إلى المشير طنطاوى، الذى أصر على الاختفاء عن المشهد السياسى والإقلال فى التصريحات، مع إطلالات متباعدة وقصيرة بعضها يثير لبسا أكثر مما يجيب عن أسئلة، كما كانت الحال فى جولة «البدلة المدنية» الأخيرة فى وسط القاهرة. ولو كان هذا الإصرار من قبل المشير على عدم الحديث ومصارحتنا كمواطنين مصريين بما حدث وبواقع الحال وبصورة المستقبل، هو من قبيل تأكيد النية الخالصة للعسكر العودة إلى ثكناتهم فى إطار الفترة الانتقالية التى حددوها فور السيطرة المنفردة على الحكم بعد الإطاحة بمبارك، لكان ذلك مفهوما ولقلنا إن المشير يتصرف كما نظيره فى السودان سوار الذهب، الذى التزم بفترة العام التى حددها لنفسه وقام بتسليم الحكم لحكومة مدنية منتخبة بعد ثورة شعبية مماثلة هناك فى عام 1985. ولكن لدينا فى مصر، الوضع مختلف تماما. فالجيش هو الحاكم الفعلى لمصر منذ ثورة 1952، ولا يجد بعض كبار المثقفين والناشطين فى الحقل السياسى لدينا فى مصر أى غضاضة فى المطالبة علنا باستمرار المشير طنطاوى فى الحكم لفترة انتقالية تصل إلى عامين، بينما يتطوع آخرون فى التليفزيون المصرى لحظة إذاعة صور جولة المشير بالبدلة المدنية ليفسروا تجمهر المواطنين حوله وسعيهم إلى التقاط الصور معه على أنه دلالة على صلاحيته لتولى منصب الرئاسة. لم يجب أحد حتى الآن عن السؤال الذى يدور فى أذهان كثيرين، وهو: لماذا لا يقوم المجلس العسكرى بممارسة الضغط اللازم على جهاز الشرطة للقيام بدوره؟ وما سر هذا العجز المتواصل للأجهزة الأمنية التى يتجاوز تعدادها مئات الألوف بعد أن كانت قادرة على عد أنفاس المواطنين ووضع مخبر فى كل حارة لضمان السيطرة؟ ولكن القضية الأهم، هل استمرار حالة الغموض هذه هى من مصلحة مصر واقتصادها والسعى إلى استعادة الاستقرار؟ هل من مصلحتنا أن نبقى بلا برلمان منتخب حتى مارس المقبل؟ وهل سيبقى المجلس العسكرى متفردا باتخاذ القرارات خلال تلك الفترة، يستمع إلى آراء ممثلى الأحزاب ثم يقوم فى النهاية بإصدار القوانين بالطريقة التى يراها مناسبة من خلال مراسيم دون أى تفويض شعبى حقيقى؟ وهل من مصلحتنا أن نبقى بلا رئيس منتخب بطريقة شرعية لنحو عامين؟ هل سيثق العالم الخارجى بنا وباستقرار الأوضاع لدينا لتتدفق الاستثمارات المرغوبة بينما نحن فى حالة انتقالية لمدة عامين؟ نريد أجوبة واضحة وصريحة، والأهم تتوافق مع الأهداف الواضحة التى ضحى من أجلها العشرات من شباب مصر بأرواحهم. لو قرر العسكر أنهم سيستمرون فى الحكم عامين إضافيين، فليعلنوا ذلك صراحة، ولكن من المؤكد أن استمرار حالة «ما حدش فاهم حاجة» تضر بالجميع.