ما زالت الذكرى حاضرة، وما زال المشهد حيًّا رغم مرور السنين، كنا أطفالًا صغارًا حين داهمنا الهول. الطائرات تلقى قنابلها على مدار ساعات النهار، والبوارج تطلق مدافعها، والنار تشتعل فى منازل المدينة التى كان أغلبها مبنيا بالطريقة القديمة باستخدام الخشب. المدينة هى بورسعيد، والطائرات من أساطيل فرنسا وبريطانيا، والدفاع عن المدينة يتولاه أبناؤها ببنادق صغيرة تم توزيعها عشية العدوان عام 1956. بطاريات المدافع تم تدميرها مبكرًا، والمدينة تم عزلها عن مصر بعد تدمير الكبارى. والشهداء يتساقطون بالمئات ثم بالآلاف. أجسادهم منعت تقدم قوات الغزو التى كانت تريد احتلال مدن القناة كلها حتى تستعيد ما فقدته حين أصدر عبد الناصر قرار تأمين قناة السويس ليستعيدها لأحضان الوطن. «الأممالمتحدة» أصدرت قرارًا بوقف العدوان، وشعوب العالم وقفت مع حق مصر. لكن العدوان استمر حتى جاء الحدث من موسكو. كانت أول مرة نسمع فيها الهتاف للروس (لم يكن اسم الاتحاد السوفييتى شائعًا يومها) بعد أن وجهت موسكو إنذارها االشهير لدول العدوان: لندن وباريس ليست بعيدة عن صواريخنا إذا لم يتوقف العدوان فورًا. وتوقف العدوان، وبدأت رحلة استمرت على مدى أكثر من خمسة عشر عامًا من الشراكة. بنينا خلالها السد العالى، ووضعنا قاعدة الصناعة المصرية، وأسسنا جيشًا حديثًا انكسر دون قتال حقيقى فى 67، وانتصر عند المواجهة الحقيقية فى حرب أكتوبر. بعد أربعين عامًا من انتصارنا فى أكتوبر على جيش إسرائيل وترسانة الأسلحة الأمريكية، نعود اليوم لنجدد العلاقة مع شريك كان معنا فى السراء والضراء، نعرف أن الزمن تغير. روسيا اليوم غير الاتحاد السوفييتى قبل نصف قرن، ومصر اليوم تختلف، والعالم غير العالم، وعلاقات القوى تغيرت.. لكن شيئًا خاصًّا يبقى فى العلاقات بين القاهرةوموسكو، لا يرتبط بالحنين إلى الماضى كما يتصور البعض، بل ينطلق من دروس التجربة التى ينبغى أن تكون أمامنا، ونحن نعيد بناء سياستنا الخارجية بعد ثورة كان أحد أبرز عناوينها هو استقلال القرار الوطنى. كان هذا هو العنوان الذى قاد عبد الناصر بعد ثورة يوليو إلى تعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفييتى، ومع الصين التى كانت أمريكا يومها ترفض الاعتراف بها، ومع العالم الثالث الذى كان واقعًا تحت هيمنة استعمار قديم لا يريد أن يرحل واستعمار جديد يخطط للوراثة والهيمنة بكل الطرق. بعد رحيل عبد الناصر والانقلاب على كل سياسات ثورة يوليو، كان «العربون» الذى قدمه السادات للأمريكان هو إخراج الخبراء السوفييت من مصر الذين جاؤوا بإلحاح من مصر للمساعدة فى إعادة بناء الجيش بعد هزيمة 1967. ورغم المرارة التى شعرت بها موسكو من الطريقة التى تعامل بها السادات مع هذا الموضوع، فقد استمرت فى تنفيذ تعهداتها.. سواء فى برامج التصنيع، أو فى توريد السلاح الذى حاربنا به فى أكتوبر 73، وحققنا النصر الكبير. قارن ذلك بما تفعله واشنطن اليوم، وهى تحجب السلاح عن جيشنا وهو يخوض حربًا حقيقية ضد عصابات الإرهاب التى جمعت بين «القاعدة» و«الإخوان». وانظر إلى حصاد خمسة عشر عاما من التعاون بين القاهرةوموسكو تركت لنا عشرات القلاع الصناعية ومئات المصانع التى ما زالت تمثل إحدى قواعد اقتصادنا.. ثم قارن ذلك بحصاد أربعين عامًا من حصار الصناعة الوطنية.. وإقامة دولة السمسرة والتوكيلات! ومع ذلك، فنحن لا نغلق الأبواب فى وجه أحد، ولا نستبدل طرفا دوليا بطرف آخر، ولا نعمل بمنطق «والنبى لنكيد العزال» وإنما بمنطق أن قرارنا بيدنا، ومصيرنا لا يقرره إلا هذا الشعب. من يحترم ذلك سنمد له يد الصداقة، ومن يتصور أنه قادر على إملاء إرادته علينا فسوف يدفع الثمن غاليا.