أبو الهذيل العلاف وتلميذه النظام، هما من كبار المعتزلة، ذهبا ليعزّيا صالح بن عبد القدوس فى وفاة ولده، وكان صالح حزينًا الحزن كله، جزعًا الجزع كله، فقال له أبو الهذيل: لا أدرى لجزعك وجهًا إذا كان الناس عندك كالزرع (فقد كان لصالح آراء فلسفية وله كتب تدعو إلى اللا مبالاة وعدم الاكتراث وأيضًا الشك)، فقال صالح: يا أبا الهذيل، إنما جزعت عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك، فقال الهذيل: وما كتاب الشكوك؟ قال: كتاب وضعته مَن قرأه شك فى ما كان حتى يتوهّم أنه لم يكن، وشك فى ما لم يكن حتى يتوهّم أنه كان، فلما سمع النظام وهو التلميذ الصغير فى هذا الوقت صالحًا يقول هذا الكلام، أردف موجهًا كلامه إلى صالح: فشك أنت فى موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت وإن مات، شك أيضًا فى أنه قرأ هذا الكتاب وإن يكن قرأه، هذا كان فى القرن الثالث الهجرى قبل ديكارت ب11 قرنًا. وأنا أقرأ ذلك تذكرت يوم أن خرجت يومًا بعد صلاة العشاء ومعى بعض الإخوان فى مدينة دمنهور الهادئة فى أيام الشتاء حيث المطر الذى يختلط بالأتربة فى الأزقة والحارات، فيحيل المشى بها إلى عملية شاقة ومغامرة غير مأمونة العواقب، أخذنا نتجاذب أطراف الحديث حتى وصلنا إلى ميدان الساعة، أهم ميدان فى مدينة دمنهور، وخرجنا لنرتشف كوبًا من الشاى عند أحد الأصدقاء، كان معى يومها المهندس ضياء الحيص ورضا أبو سعيد والسيد الحداد وأحمد حامد، وكان هذا فى عام 91 من القرن الماضى، وكان الشك قد بدأ يتسرّب إلى قلب المهندس ضياء بعد تجربة قاسية فى السجن، بدأ الشك يتسرّب إليه فى أفكار الجماعة ومناهجها وقادتها وأساليبها، وكان وقتها مسؤولًا لقسم الطلبة وكان قيادة مهمة فى محافظة البحيرة، حيث كان المسؤول الأول عن انتخابات مجلس الشعب 87 فى المحافظة، فمع تجاذب أطراف الحديث عن الجماعة وأفكارها قال الباشمهندس ضياء، نحن ننتمى إلى فكرة نظن أنها صحيحة، انتفض وقتها الرديف أو النائب لقسم الطلبة الأستاذ أحمد حامد غاضبًا وقال أظن.. أظن! حروح لربنا أقول له أظن؟ كنت باجرب، نحن على يقين أننا الصواب، وظننت أن الأمر قد انتهى إلى هذا الحد، ولكن الأمر لم ينتهِ، فحيث كان لنا عمل وعلاقة بقسم الطلبة فقد لكل واحد فينا شعبة وأسرة، فوجئت باستدعاء لمسؤول الشعبة، وهو مسؤول الأسرة فى نفس الوقت، وطلب منى رواية الحوار بالتفصيل، وكان التأكيد: هل قال أظن أننا على الصواب؟ فأجبت بنعم! ولكنى تعجبت وقتها من تطور مشكلة أظن حتى تصل إلى القيادات العليا ليتم التحقيق وأعتقد أن بقية المجموعة حدث معها نفس الموقف، وقد كانت وقتها الشكوك قد بدأت تتسرّب إلى قلبى أنا أيضًا، من تصرفات وممارسات لا تدعو إلى الثقة على الإطلاق !وأنا أكتب هذا الكلام أتذكر الخوارج بأقسامهم، الأزارقة والصُّفْرية والإباضية والعجاردة، والثعالبة، وكذلك المعتزلة والشيعة بأنواعهما من سبئية وتوابين وكيسانية ومغيرية وإمامية وإثنى عشرية وزيدية، ومختارية وكربية وهاشمية ومنصورية وخطابية وعلوية، أما اليوم فالجماعات الإسلامية من إخوان وسلفيين وجماعة إسلامية وصوفية وقاعدة وخلايا عنقودية وكل خلية لها أمير، لو كل فصيل تشبث برأيه من منطلق الحديث ستفترق أمتى على بضع وسبعين شعبة كلها فى النار إلا واحدة، وطبعًا أنا أرد تلك الأحاديث من هذا النوع التى تزرع الكراهية وتحض على التكفير، إلى متى سنظل فى هذا الصراع متى نجعل المقاصد العليا هى الأساس، الحرية والعدالة والكرامة، والمروءة والشهامة والحب وفعل الصالحات التى ذكرت 50 مرة فى القرآن مقترنة بالذين آمنوا، فعلينا أن نعمل عقولنا ونفكّر دائمًا، ونعمل الصالحات مهما كان معتقدنا وفكرنا، فلنفكر ونعتقد ونشك كما نشاء ولنعمل كلنا الصالحات، هيا بنا نبنى هذا البلد جميعًا على الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.