محمود الوردانى يستعرض مراحل من حياة بطله من خلال المهن الصغيرة التى مارسها الحنين إلى الماضى، والى مرحلة الطفولة وبداية الشباب، والشجن الذى يغلف المشاعر بعد سن الستين أبرز ملامح رواية محمود الوردانى «بيت النار» الصادرة عن «ميريت». يستعرض المؤلف مراحل من حياة بطله، ويوجّه العدسة المكبّرة إلى المهن الصغيرة التى مارسها، خلال تلك السنوات المبكّرة من حياته، ثم كذلك مشاعره الغضّة تجاه بعض الفتيات، بالإضافة إلى بعض التفاصيل المهمة عن جغرافية الأحياء التى سكنها فى القاهرة، وصولا إلى مرحلة العمل السياسى فى السبعينيات، والملابسات التى أدّت إلى اختيار زوجته الأولى. فى البداية نحن فى صيف 1962، ومصطفى -طفل فى العاشرة- يحكى لنا ذكرياته. كان والده قد توفى منذ سنوات قليلة، تاركا أرملة وطفلين. وكانت والدته «قمر» تتنقل به وبأخته «منى»، بين الحجرات التى تؤجّر فى منطقة شبرا، بحثا عن أرخصها، فى انتظار الحصول على معاش من الشركة التى كان الوالد يعمل بها، وفى انتظار الحصول على جنيهات قليلة من الضمان الاجتماعى. كانت الأم ترفض قبول المساعدات من الجد أو من العم اللذين كانا يعرضانها على الأسرة الصغيرة بين وقت وآخر. وهكذا وجد مصطفى نفسه مضطرا إلى مساعدة والدته، رغم صغر سنه، ورغم أنه تلميذ ناجح فى الصف الخامس الابتدائى. أول عمل لمصطفى هو مساعدة «عم كامل» فى نقل ألواح الثلج، من الثلاجة الموجودة فى الشارع، إلى المستهلكين فى الشقق السكنية الواقعة فى طوابق مختلفة بعدد من عمارات الحىّ، وكذلك إلى بعض مقاهى الحىّ. كانت الثلاجات المنتشرة فى ذلك الوقت تسمّى «السربنتينة»، وهى مشتقة من كلمة ثعبان «سربنت» فى اللغات الأجنبية، وهو اسم المواسير التى تتلوى كالثعابين، وتوضع فوقها ألواح الثلج، التى تُبَرِّد الماء عند مروره داخل المواسير. عندما يحاول الطفل مصطفى مقاومة حرّ الشوارع، بامتصاص قطع من الثلج المجروش فى فمه، يصاب بحمّى يرقد بسببها فى الفراش. فى العام التالى 1963، عمل مصطفى فى مطبعة تقع فى أرض شريف، بالقرب من شارعين مهمّين هما محمد على وعبد العزيز، وبالقرب من ميدان العتبة، وهو ما سمح للطفل باكتشاف الكثير من ملامح قاهرة وسط البلد التى لم يكن يعرفها. بالإضافة إلى أنه كان منتبها إلى المراحل المختلفة لعمليات الطباعة الدائرة فى المطبعة، بالأسلوب اليدوى القديم، من صفّ الحروف، إلى طبع أفرخ الورق، وتقطيعها، ثم لصقها بالغراء، ثم إضافة الأغلفة، لإنتاج الشكل النهائى للكتاب. إلا أن عمل الطفل كان منحصرا فى تنظيف المكان، وشراء الطعام للأسطوات، وجلب الأوراق من ورش التقطيع. وحدث ذات مرة، فى أثناء ذهاب مصطفى وأحد زملاء العمل الأطفال، بالترام من شبرا إلى العتبة، وكانا معتادين على الركوب دون قطع تذاكر، رغم أن ثمنها كان فقط نصف قرش، أن قبض عليهما البوليس. نُقِل مصطفى فى سيارة شرطة ليست بها إلا نوافذ ضيقة مرتفعة، تعرّض داخلها إلى تحرش جنسى، إلى قسم شرطة الأزبكية، حيث وُضِع لصغر سنه فى حجز الحريم، وتكفلت سيدة شابة جميلة اسمها «نوال» بحمايته من الاعتداء عليه، ثم قدّمت له الماء والطعام. تمكنت فى ما بعد أمهات الأطفال التلاميذ من تسلمهم دون خسائر جسيمة. فى شهور إجازة صيف عام 1964، ينتقل مصطفى إلى العمل فى محل «عم عريان»، المكوجى فى بولاق أبو العلا، فيساعد صبى المحل فى نقل الملابس من وإلى شقق العمارات الخمس الواقعة على كورنيش الزمالك، بين قصر «لطف الله» الذى تحول لاحقا إلى فندق «الماريوت»، وبين نادى الجزيرة. يصاب الطفل بنوع من الانبهار، عندما يقارن بين ثراء مداخل وأبواب هذه العمارات، وبين فقر الحجرات التى يسكن فيها مع والدته وأخته، فى شقق تشاركهم أسر أخرى فى حمّاماتها، ويتركونها دائما غارقة فى بللها، ناهيك بالضوضاء التى تصدر غالبا من أزواج مخمورين، يضربون زوجاتهم. انتقل مصطفى بعد ذلك إلى مساعدة «المعلم عريان»، فى عمليات كىّ الملابس المختلفة، ليتعلم الأصول الفنىّة لكىّ البنطلونات والقمصان والبلوزات والفساتين. يثق المعلم أن الصبى يمكنه أن يصبح أسطى كوّاء محترف ذات يوم، إلا أن وفاة الأسطى عريان المفاجئة، تجهض أحلام الفتى فى تعلّم أسرار الصنعة. تزخر كذلك تلك الفصول بعدد من الشخصيات النسائية التى تتقرّب من الفتى، مثل الخرساء «فاطمة»، و«نجوى» التى كانت سيقانها الجميلة تجذب انتباه الفتى. فى صيف 1966 التحق مصطفى بالعمل فى محل عصير بميدان «لاظ أوغلى»، كان صاحبه صديقا لأحد جيرانهم فى شبرا، ونتيجة لثقة قمر فى صاحب ذلك المحل، شاركته فيه برأس مال قدره 180 جنيها، هى كل ما تمكنت من الحصول عليه كمكافأة نهاية خدمة لزوجها. بعد ذلك تحسّنت أحوالهم عندما كانت تحصل من المحل على عائد شهرى قدره عشرة جنيهات، بالإضافة إلى جنيهين هما مرتب مصطفى الأسبوعى. كان عمله كاشيرا، أى أنه كان يقبض ثمن المشروبات من الزبائن، ويسلمهم مقابل الثمن ماركات بألوان مختلفة حسب نوع المشروب، كالعصائر المختلفة مثل القصب والجوافة والمانجو، أو كالمشروبات الغازية. إلا أن هذا الرخاء الاقتصادى لم يدم طويلا، فبين يوم وليلة تم القبض على صاحب المحل وإيداعه السجن، وإغلاق محل العصائر بالشمع الأحمر، ولم تبىّن الرواية ما التهمة التى سُجن بسببها صاحب المحل. إلا أن الأسرة الصغيرة وجدت نفسها مضطرة إلى مغادرة حى شبرا، والانتقال للإقامة فى أحد أحياء الجيزة الشعبية وهو حى العمرانية، الذى لم يكن فى ذلك الوقت إلا بعض المساكن المتناثرة، فى أرض تغلب عليها خضرة الحقول، وبالطبع كانت مشكلة السكن الجديد أنه بلا كهرباء أو مياه نقية أو صرف صحّى. اضطرت قمر إلى البحث عن عمل، حتى وجدت وظيفة مربية فى حضانة أطفال. أما مصطفى فإنه لم يتمكن من الانتقال إلى إحدى المدارس الثانوية فى الجيزة، فظل فى مدرسة روض الفرج الثانوية، وذلك لأنه كان يدرس اللغة الألمانية كلغة ثانية، ولم تكن هذه اللغة قد انتشرت فى المدارس. خلال السنوات الثلاث الأولى من دراسته فى كلية التجارة، عمل مصطفى فى مجلة «صوت العروبة»، التى كان يصدرها رجل يعمل أساسا فى تجارة الأخشاب، ويملك مخزنا للخشب وورشة نجارة فى منطقة «بين السورين»، بالإضافة إلى كونه مسؤولا حزبيا فى الاتحاد الاشتراكى، وكان المصدر الرئيسى للتمويل اللازم للمجلة يأتى عن طريق الحصول على أكبر قدر ممكن من الإعلانات المدفوعة، من أصحاب الأعمال المختلفة، بحجة أن المجلة تعبّر عن أصوات العمّال وعن آراء الطبقة العاملة. فكان مصطفى يذهب مع مندوب جمع الإعلانات، إلى الورش والمصانع فى جميع أنحاء القاهرة، ويقومان بإجراء حوارات مع أصحاب الورش والمصانع، عن رأيهم فى مشكلات العمل المختلفة، المتعلقة بالنقابات والضرائب، ثم يسجّلان ما يقوله الشخص كتابة، حتى يشعر صاحب الورشة أو المصنع، بأهميته وبأهميتهما، فيتحمّس لوضع إعلان فى مجلتهما، إما عن إنتاج ورشته أو تهنئة لرئيس الجمهورية أو للسيد المحافظ، بمناسبة أحد أعياد الثورة أو الأعياد القومية المختلفة. وبالتالى فإن المناديب كانوا يذهبون مثلا فى عيد النصر (23 ديسمبر) إلى بورسعيد، وفى عيد العمال إلى المنطقة الصناعية فى حلوان أو شبرا الخيمة، أو إلى مصانع النسيج فى المحلة الكبرى، وهكذا. كان للمندوب نسبة فى قيمة المبلغ الذى ينجح فى تحويله نقدا إلى خزينة المجلة.