النقد البنيوى اندثر فى موطنه منذ ثلاثين عامًا وباحثونا ما زالوا متمسكين به! ربما كان الإحساس بوجود أزمة نقدية ناجمة عن طغيان المناهج التى اهتمت بمحيط النص وبمضمونه أكثر من اهتمامها بخطابه أحد أسباب اندفاع عدد كبير من النقاد والباحثين العرب فى الربع الأخير من القرن العشرين نحو المنهج البنيوى الشكلى الذى بهرهم بادعائه للعِلْمية، وبسبب هذا الاندفاع، أو نتيجة له كان تمَثُّل أغلبهم للمنهج: فلسفته وأهدافه وأدواته وإجراءاته ووظيفة الناقد فيه، مما انعكس على إنتاجهم تنظيرا وتطبيقا. هذا ما توصلت إليه د.فريال كامل سماحة فى أحدث كتبها (النقد البنيوى للسرد العربى)، الذى صدر عن مؤسسة «أروقة» للدراسات والترجمة بالتعاون مع نادى القصيم الأدبى. يبدو واضحا أن د.سماحة تحاول فى كتابها هذا أن تتوصل إلى إجابة عن السؤال القائل: لمَ اختار الناقد المنهج البنيوى وما خطواته العملية فى تحليل الرواية العربية بمستوييها الدلالى واللفظى؟ وترى أنه باستثناء ناقد أو اثنين كان حصر الناقد للمفاهيم البنيوية ناقصا، وكان إدراكه للعلاقات بين مستوياتها غائبا، أو مجزوءًا مما أفضى إلى الخلط والتلفيق بين اتجاهى المنهج نفسه: «نحو القَصّ» و«بوطيقا القص» ومعالجة مكونات القصة أى مضمون السرد ومكونات الخطاب أى ملفوظ السرد فرادى، مع تجاهل العلاقات البنيوية التى تضمهما معا. بل تذهب د.سماحة إلى أبعد من ذلك إذ ترى أن غياب وعى الناقد بهدف المنهج البنيوى وفلسفته أدى إلى المزج بينه وبين المناهج التأويلية التى تتناقض معه، ومن هنا فقدْ خلط بين الصورة والبنية والأداة والآلية، وعمد إلى تأويلات اجتماعية ونفسية وفنية مبتسرة، وإلى غياب هدف المنهج عن حسبان الناقد. تضيف د.سماحة غياب وظيفته عن باله، إذ ليس من وظيفته البحث عن المعنى بل عن كيفية تكوّنه فى النص، وتُرْجع الإقبال الشديد على النقد البنيوى فى العقدين الأخيرين من القرن العشرين إلى غياب حرية القول فى أغلب أقطار العالم العربى، ثم تتساءل: لمَ وقع الناقد العربى فى ما وقع فيه ولم يتجنب أخطاء من سبقوه؟ كما لم يكترث للنقد الذى وُجِّه إلى المنهج البنيوى فى منبته، وعن تساؤلها تجيب قائلة إن النقد الذى وُجِّه للبنيوية فى نسختها العربية انصب فى أكثره على فلسفتها وتنظيراتها وندر أن يتناول النواحى التطبيقية فيها، الأمر الذى يجب أن يستقطب جهودا جماعية وفردية لإحياء نقد النقد تتجه نحو التطبيق اتجاهها نحو التنظير. غير أن د.محمد نجيب العمامى يؤكد فى تقديمه هذا الكتاب أن النقد البنيوى قد اندثر فى موطنه منذ ما يربو على ثلاثين عاما، لكن باحثينا لا يزالون متمسكين به دون أن يتمثله كثيرون منهم، ويفيدنا التاريخ العربى الإسلامى أن التمثّل هو الكفيل بتحويل النظرية العربية النقدية من شعار إلى مطلب سهل التحقيق. هذا وتطمح د.سماحة فى كتابها هذا إلى دراسة النقد البنيوى للسرد العربى الذى أنجز فى الربع الأخير من القرن العشرين، الجانب التطبيقى منه على وجه الخصوص. وتكمن أهمية هذا الكتاب فى تناوله هذا الجانب الجدير بالاهتمام بعد أن أهملته الدراسات النقدية السابقة لصالح الجانب النظرى، أما ما جذب د.سماحة إلى هذا الحقل فهو ما وصلت إليه حركة الإبداع السردى العربى من إنجازات يُعتد بها، إضافة إلى ما اكتسبته الرواية العربية من خصوصية جعلت الإقبال على دراستها يزداد بمناهج مختلفة، وكان أكثرها بروزا على الساحة النقدية المنهج البنيوى الشكلى بفرعيه، وتؤكد د.سماحة أنه لا بد لدارسى النقد من الوقوف على المداخل النظرية للنقاد فهى تبين أسباب اختيارهم للبنيوية منهجا لتحليلاتهم كما تبين مدى تمثلهم لمفاهيمها الأساسية مثلما توضح أيضا تصوراتهم لأهداف هذا المنهج، وتضيف قائلة «كأن لسان حال الناقد العربى يقول: البنيوية هى الحل، يقول ذلك دون أن يسأل نفسه عن فلسفتها والظروف التى أوجدتها، ودون أن يقف عند أهدافها أو يتبصر قبل الاقتطاف من مفاهيمها التى قدمها عدد قليل منهم بوضوح وتركيز وشمول، بل اكتفى كثيرون من النقاد بالاقتطاف من المنهج الواحد، بل قاموا بالمزج بين المناهج التحليلية والتفسيرية أو الاقتطاف بوعى أو من دون وعى، ثم تتساءل إن كان الناقد لم يفلح فى بناء منهج نابع من النصوص العربية فلمَ عجز عن تطوير المناهج المستوردة؟ ولا تُرْجع هذا إلى ضعف تمثُّل المفاهيم البنيوية فقط بل لأن الناقد لم يحدد مهمة المنهج وطبيعته، ولم يدرك أن الاختلاف بين المناهج ما هو إلا اختلاف فى الرؤى».