انفجرت الأوضاع فى تركيا فجأة على إثر قيام الحكومة بتحويل حديقة فى ميدان «تقسيم» إلى «مول تجارى»، تصاعدت الأحداث واستخدمت الشرطة قنابل الغاز، وانتشرت الاحتجاجات فى مدن تركية أخرى، تنادى شبابًا تركيًّا إلى التظاهر احتجاجًا على سياسات الحكومة، وخرج شباب حزب العدالة والتنمية، ليعلن استعداده للتظاهر تأييدًا للحكومة. الأحداث بدأت على إثر شروع الحكومة فى قطع الأشجار فى ميدان تقسيم، الذى يوازى ميدان التحرير لدينا، ولكن الغضب الذى أدّى إلى الانفجار وتصاعده يتجاوز قضية بناء مول تجارى على أرض حديقة فى ميدان هام، غضب تراكم فى تركيا نتيجة قوانين مرّرها البرلمان وقرارات اتخذتها الحكومة شكّلت مساسًا بأسس الدولة العلمانية التى أسسها أتاتورك، قوانين وقرارات عديدة مكّنت الحكومة من تغيير بعض معالم الدولة التركية، وأول هذه الأسس التى تم ضربها دور المؤسسة العسكرية التركية فى حماية الدستور والعلمانية، تدريجيًّا تمكّن حزب التنمية والعدالة من إخضاع المؤسسة العسكرية وتطويعها، ثم انتقل إلى مرحلة جديدة هى محاسبة هذه المؤسسة بأثر رجعى والانتقام منها على النحو الذى تجلّى فى محاكمة عسكريين باتهامات قديمة، وهو ما دفع نحو خمسة وأربعين ألف عسكرى تركى إلى تقديم استقالاتهم والخروج من المؤسسة. بعد ذلك اتجه حزب العدالة والتنمية إلى التدخّل فى مجال الحريات العامة والحقوق، فقد أصدر البرلمان قانونًا يحد من عملية بيع وتوزيع الخمور، وهو ما اعتبرته القوى العلمانية بداية تدخّل من حكومة العدالة والتنمية فى الحريات الشخصية والعامة فى المجتمع التركى، وأن العملية التى بدأتها الحكومة لن تتوقف، وسوف تؤدّى إلى تغيير أسس الدولة التركية. هناك مَن يرى أن حكومة حزب العدالة والتنمية التى يقودها رجب طيب أردوغان، تنطلق من رؤية متكاملة لتغيير وجه تركيا، وهدم أسس الدولة التركية الكمالية العلمانية وبناء دولة وفق رؤية إسلامية تتطلع إلى دولة الخلافة من جديد، وأن هذه الخطة اعتمدت على تحقيق تنمية اقتصادية متواصلة على غرار ما حققته دول آسيوية فى عقود سابقة، ومن ثَم كسب ثقة المجتمع التركى، وبعد تحقيق نقلات عالية من التنمية، وبالتوازى معها عملية تمكّن من مؤسسات الدولة التركية، تشرع بعد ذلك فى عملية بناء نموذجها الخاص على المستويين الداخلى والإقليمى، على الصعيد الداخلى بدأت الحكومة التركية فى تطبيق نموذجها الخاص من تقييد للحريات العامة والخاصة، وعلى الصعيد الإقليمى تحرّكت لدعم النماذج التى تقودها أحزاب ذات مرجعية إسلامية، مثل «النهضة» فى تونس، و«الحرية والعدالة» فى مصر، كما تعاونت مع هذه أولًا فى عملية تحطيم وتدمير النماذج المغايرة، وهو ما يتم حاليًا فى سوريا، حيث تجرى عملية هدم للنظام السورى لاعتبارات عديدة، يحتل المكون الطائفى فيها مكانة مهمة، تلعب تركيا أردوغان الدور القيادى فى هدم النظام السورى بالتعاون مع عدد من الدول العربية التى تلعب أدوارًا وظيفية مثل قطر. باتت تركيا اليوم تمثّل النموذج الاسترشادى لتيار الإسلام السياسى، وباتت تطمح إلى دور قيادى فى المنطقة يتمثّل فى استغلال رابطة الدين فى إعادة إنتاج نموذج عثمانى جديد يجعل من تركيا دولة القيادة التى تقطر المنطقة وراءها، وفى نفس الوقت تحسّن أوراق الدولة التركية فى التعامل مع العالم الخارجى، ومفردات العثمانية الجديدة باتت تتردد كثيرًا فى خطاب الدبلوماسية التركية. من هنا فإن تعرّض النموذج التركى لتحديات داخل تركيا وصعوبات خارجها وتحديدًا فى سوريا يمثّل تحديًا كبيرًا لطموحات تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، ويمثّل تحديًا أيضًا لتيار الإسلام السياسى الذى يقود الدفة فى تونس ومصر. السؤال هنا: هل تواجه حكومة العدالة والتنمية فى تركيا المظاهرات والاحتجاجات بطريقة مختلفة، تقدّم من خلالها نموذجًا من الحزب القدوة والمرشد المثالى لتيار الإسلام السياسى فى العالم العربى، أم أنها ستتبع نفس نهج أحزاب الإسلام السياسى؟