[email protected] زيارة رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي لمصر بدأت بترحيب واستقبال الفاتحين له وانتهت بتواصل الانقسام بين التيارات السياسية في مصر علي خلفية الخلاف حول الدولة المدنية والدينية ، تصريحات ومقابلات الرجل التي أجريت قبل وصوله لمصر رآها كل طرف من منظوره الخاص ففريق العلمانيين وجد أن الرجل لايحيد عن علمانية بلاده التي تحققت معها نهضة تركيا وتعاظم دورها الإقليمي والدولي ، لكن هذا الفريق لم ير الصورة جيدا فتركيا العلمانية علي مباديء مصطفي كمال أتاتورك ظلت طيلة سبعين عاما تتخبط سياسيا واقتصاديا وتتحكم فيها مؤسسة عسكرية لحمايتها وأطاحت بأربع حكومات مدنية ، تركيا قبل قدوم التيار الإسلامي المتمثل في أربكان ثم أتباعه عانت من علمانية حديدية لأبعد الحدود فقد جاء أتاتورك لينهي كل صور الحرية الدينية كحق إنساني بعد سقوط دولة الرجل المريض (الخلافة العثمانية ) وإنهائها رسميا عام 1922وإنشاء الجمهورية التركية في العام التالي ونزع الهوية عن بلد يشكل المسلمون 99٪ من سكانه وتغريبه بداية بإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص أن الإسلام هو دين الدولة ومنع قيام الأحزاب الدينية وإلغاء تدريس اللغة العربية وحتي العثمانية القديمة والكتابة باللاتينية ووقف التعليم الديني وإغلاق المساجد وفرض الصلاة والأذان باللغة التركية ومنع حجاب المرأة وهكذا حرم الأتراك من ممارسة شعائر دينهم بحرية طوال سبعة عقود زمنية مضت بدعوي التحديث في مواجهة رجعية الدين وحكم الأموات للأحياء كما ردد أتاتورك !! تركيا بعلمانية أتاتورك ومن خلفه في الحكم ودون ديمقراطية حقيقية تراجعت داخليا وانزوت إقليميا واختفت من خريطة العالم وكانت فريسة للصراعات العالمية التي وجدت نفسها فيها دون إرادتها ، ومع كل الممارسات المقيدة للحريات اضطرت الحركات الدينية للعمل السري خاصة الحركات الصوفية في ستينيات القرن الماضي ونشاطها الدعوي حتي الثمانينيات عندما خرجت للعلن كحركة اصلاحية دون تصادم مع العلمانية والدعوة لتصالحها مع الدين باعتباره احتياجا إنسانيا لتبدأ مرحلة تحول جديدة في تركيا للتخلص من ميراث العلمانية التي امتدت جذورها في مؤسسات الدولة ، وكان أسوأ صور بطش العلمانيين إطاحة الجيش بعدنان مندريس رئيس الوزراء بسبب ميوله الإسلامية وتقديم الرجل لمحاكمة صورية وإعدامه في اليوم التالي في سبتمبر 1960 وظهر نجم الدين أربكان كقائد للإحياء الإسلامي ومشواره السياسي عبر أحزاب النظام الوطني والسلامة والرفاه والفضيلة والسعادة ووصوله لرئاسة الحكومة عام 1996 لكن بعد عام واحد وبسبب رفضه لمطالب قدمها الجيش لوقف الأنشطة الدينية في البلاد قدم استقالته لكن تلامذته واصلوا المشوار ومنهم عبد الله جول وأردوغان ففي التسعينيات استطاع الأخير خلال رئاسته لبلدية أسطنبول تطوير وتحديث المدينة في سنوات قليلة وأسس هو وجول حزب العدالة والتنمية عام 2001 وبعد عام واحد فقط استطاع أن يحصل علي الأغلبية في البرلمان وتشكيل حكومة رأسها جول لوجود حكم قضائي بحظر نشاط أردوغان سياسيا لكن بعد عام رفع الحظر وتولي رئاسة الحكومة حتي يومنا هذا عبر فوز حزبه لثلاث مرات متوالية بثقة الناخبين الأتراك بسبب التحولات الجذرية التي نقل بها أردوغان بلاده إلي مصاف القوي الإقليمية صاحبة التأثير سياسيا واحتلالها المرتبة السابعة عشرة اقتصاديا عالميا واتساع نطاق الحريات في عهده وتقليص دور الجيش للوفاء بمعايير الانضمام للاتحاد الأوربي الذي يدرك أردوغان جيدا أنه لن يضم لعضويته بلدا ذا غالبية مسلمة ! رغم كل ماحققه أردوغان من نجاحات إلا أن الاحتقان بين التيارين العلماني والإسلامي حول هوية البلاد الثقافية لايزال محتدما حتي الآن علي الرغم من اتساع مساحة التدين خاصة خارج المدن الكبري ورفع حظرالحجاب ، من هنا لابد من فهم طبيعة الوضع السياسي التركي ولماذا قال أردوغان إنه إنسان مسلم لكن يمارس دوره في بلد علماني- كما ينص دستوره العسكري حتي الآن ويسعي أردوغان لتغييره. لايعترف بالإسلام كمكون رئيسي للثقافة التركية وهو لم يصرح يوما أنه جاء للصدام مع العلمانية أو أنه يريد إزالتها لكنه نجح في أن يوسع مساحة الديمقراطية والتعددية في المشهد السياسي أما الوضع في مصر فمختلف بصورة شبه كاملة فنحن لانعيش منذ عقود زمنية طويلة في إطار علمانية كالتجربة التركية وهناك مساحة واسعة للحرية الدينية والسماح بممارسة المصريين لشعائرهم والدساتير المتعاقبة منذ عشرينيات القرن الماضي نصت علي العربية كلغة رسمية والإسلام كهوية دينية وربما كانت الحكومات السابقة أقرب للعلمانية لكنها لم تقترب من قضية الهوية وإن اصطدمت بعنف بالتيار الإسلامي!! من هنا فمصر ليست تركيا التي يلقي نموذجها إعجاب وتقدير الغرب وماقاله أردوغان حول العلمانية وأشار بعده إلي أن تصريحاته فهمت بشكل خاطيء في أنها ليست ضد الدين وهي تقف علي مسافة متساوية من كل الأديان ، الدين مكون أساسي في حياة المصريين ، وللذين هللوا لأردوغان عند استقباله واستحضار قضية الخلافة ثم اعترضوا علي تصريحاته الخاصة بالدعوة للعلمانية أو من أعجبوا بعلمانيته نقول إن مايصلح لتركيا كإطار سياسي وأيدلوجي لايناسب بالضرورة مصر ، أما التعاون في كافة المجالات القائم علي المصالح المشتركة بين البلدين فهو يقوي من قدراتنا في مرحلة البناء الجديد بعد إسقاط النظام ويعيد لنا دورنا ومكانتنا في الخارج علينا أن نستدعي النموذج الذي يتوافق مع الشعب وهويته ووسطية تدينه ويجب سرعة فض الاشتباك بين التيارات الفكرية التي تقسم البلاد وتعطل مسيرة البناء ومرحبا بمن يمد يد الصداقة والتعاون دون أن نستحضر نموذجه الذي لايناسبنا ! كلمة أخيرة يعاني الإنسان في السجن من نقص في المكان وفائض في الزمان (علي عزت بيجوفيتش)