تكشف المسرحية الجزائرية التى عُرضت فى مهرجان أفينيون هذا العام (مورسو: استقصاء مضاد) والمأخوذة عن رواية الكاتب الجزائرى كامل داوود، عن الجدل المستمر بين جراح الاستعمار الفرنسى الغائرة فى النفس الجزائرية، وبين أوجاع مرحلة ما بعد الاستقلال وإخفاقها فى مداواة تلك الجراح. لأن المسرحية والرواية المأخوذة عنها معًا يمكن اعتبارهما من أعمال أدب ما بعد الاستعمار بالمعنى الحقيقى للمصطلح الذى صاغه إدوار سعيد، وأصبح من بعده حقلًا معرفيًّا بالغ الأهمية والخصوبة، لأنهما من أعمال الرد بالكتابة Writing Back بالمعنى الحقيقى لهذا المصطلح، حيث ترد وبنفس اللغة الفرنسية التى كتبت بها الرواية الأصلية على رواية (الغريب) الشهيرة لألبير كامو، ولكن من منظور المستعمَر هذه المرة، وليس من منظور المستعمِر الذى كتبت به رواية كامو. فمورسو الذى يشير إليه العنوان هو بطل رواية (الغريب) التى جسد فيها كامو مفهومه الفلسفى عن السأم/ العبث، وعن عبء الحياة وخفتها غير المحتملة حسب تعبير ميلان كونديرا من بعده. فقد كانت (الغريب) رواية كامو الأولى التى نشرها عام 1942، ونشر معها فى العام نفسه دراسته اللامعة عن (أسطورة سيزيف) التى أرسى فيها قواعد فلسفته التى يمتزج فيها العبث بالوجودية، هى التى وضعت اسمه بقوة على خريطة الأدب الفرنسى. وبلورت فكرته عن العبث والتمرد معًا. لكنها كانت فى الوقت نفسه رواية فرنسية استعمارية بالمعنى الذى بلوره إدوار سعيد فى ما بعد فى (الثقافة والإمبريالية)، على الرغم من أن كاتبها ولد فى قرية جزائرية بالقرب من مدينة عنابة الحالية لأب فرنسى، مات جنديًّا فى إحدى معارك الحرب العالمية الأولى. وكما كانت (الغريب) رواية كامو الأولى التى لفتت إليه الأنظار، فإن (مورسو: استقصاء مضاد) التى نشرت عام 2013 فى الجزائر ثم أعيد طبعها عام 2014 فى فرنسا، هى الأخرى رواية كامل داوود الأولى، والتى لفتت له الأنظار أيضًا. فقد ترجمت هذه الرواية حتى الآن لأكثر من عشرين لغة. وقد اعتمدت رواية كامل داوود على الطبيعة المنولوجية التى تتسم بها رواية كامو، مما يسّر تحويلها إلى مسرحية، توشك أن تكون مسرحية من أعمال الممثل الواحد. وكما غيبت رواية كامو «العربى» الذى اغتاله مورسو على شاطئ البحر دون سبب ظاهر أو خفى، ولم تذكر عنه شيئًا سوى أنه «عربى» فى استهانة بقدره وقيمته، غيبت رواية كامل داوود هى الأخرى مورسو من ساحتها كلية، بعد أن انطلقت منه فى عنوانها، وإن عزز غيابه شعورنا بعبء جريمته المبهظة. لأن العمل كله مكرس لتجسيد وقع فعله العبثى الغريب ذاك على الضحية، وكيف دمّر أسرتها الجزائرية كلها. وتنطلق المسرحية من مشهد جزائرى عربى خالص، فلسنا هنا أمام شاطئ البحر المتوسط الذى تطل فرنسا على شاطئه المقابل، كما هو الحال فى رواية ألبير كامو، ولكننا فى باحة دار عربية تتسم بجماليات المعمار العربى التقليدى الذى ينفتح على الداخل ويدير ظهره للخارج مؤذنًا بمنطق العمل فى التعامل مع موضوعه. وفى باحة الدار الداخلية التى تتوسطها شجرة ليمون مثمرة، وينفتح عليها بابان، يدور العمل كله، والذى اضطلع ببطولته الممثل الجزائرى المخضرم: أحمد بنعيسى، فى نوع من التجسيد الدرامى الذى يتسم بالتركيز والشاعرية معًا. وتبدأ المسرحية، بإيقاع صامت محسوب، حينما تدخل من أحد البابين الأم فتفرش سجادة الصلاة فى الباحة المفتوحة على السماء، وتصلّى فى نوع من تأكيد هويتها الثقافية. بينما تعرض لنا المسرحية على جدران الباحة خلفها بعض المشاهد الدالة لما كان يدور فى الجزائر وقتها، أى زمن أحداث رواية ألبير كامو فى مطالع أربعينيات القرن الماضى، وهى مشاهد تصدرها بورتريه الابن المقتول. وحينما يفد الابن الآخر، هارون، يمنح حكيه مع الأم، هذا العربى النكرة غير المسمى فى رواية كامو اسمًا وحضورًا ملموسًا رغم أنه قد مات فى شرخ الشباب ضحية لسأم بطله (الغريب) الذى يحقق غربته، كغربة المشروع الاستعمارى نفسه، على حساب الأبرياء من أبناء المستعمرات. فنعرف كل شىء عنه، بدءًا من اسمه الكامل: موسى ولد العساسى، مرورًا بواقعه وما كان يتمتع به من مواهب فى العزف الشّجى على الناى، وما كان يحلم به من مشاريع أجهضها قتله العبثى، وصولًا إلى أمه التى فقدت بعد صدمة موته القدرة على الكلام، أو الرغبة فيه. ولم يعد بإمكانها غير البكاء أو الصراخ والعويل أو التعديد/ الغناء تعبيرًا عما تشعر به من قهر وغيظ كظيم. أما الأخ هارون فهو الذى ينهض بعبء الحديث طوال المسرحية. وتدخل المسرحية فى تناصّ مضمر مع الأسطورة الدينية حينما تختار اسمَى موسى وأخيه هارون اسمَين لبطليها، وتجعل اسم الأخ الذى قُتل هو موسى وليس هارون. وكأن المستعمِر يقتل أصحاب الرسالات فى المستعمرات. بل وتجعل من هارون نموذجًا لما بلورته كتابات فرانز فانون من الأدواء النفسية والجسدية معًا التى يعانى منها المستعمَر. فقد دمر قتل موسى الذى جلب عبثية العنف والقهر الاستعمارى إلى قلب تلك الأسرة الجزائرية حياة أخيه هارون، ليس فقط لأنه سعى إلى الانتقام لأخيه، وانتهى به الأمر إلى قضاء قسم لا بأس به من شبابه فى سجون المستعمِر، ولكن أيضًا لأنه لم يعد قادرًا، وقد تسلل عبء الاستعمار وأدوائه إلى قلب حياته الأسرية والنفسية، على ممارسة حياة عادية بعد الإفراج عنه. وقد مكّن حضور الأم على المسرح وقد فقدت لغة الكلام، فلم تدخل فى أى حوار منطوق مع ابنها هارون الذى وقع عليه وحده عبء تجسيد كل ما يدور فى الرواية من رؤى وأفكار، العمل من التخلص من العدو الأول لمسرح الممثل الواحد، وهو الرتابة والملل الذى يصيب المشاهدين لاستمرار العمل على وتيرة واحدة. فقد منح حضورها العمل حواريته الدرامية الفريدة، وقد عززتها بلغات مسموعة أخرى غير لغة الكلام، وبنوع من التواصل الحميمى الذى جسد التفاهم المشترك بين الأم وابنها، وانطلاقهما من موقف واحد، هو مرارة الفقد. كما أتاح لها أن تكون فى مستوى من مستويات المعنى فى العمل استعارة حيّة للجزائر المكلومة. لقد كتب كامل داوود عملًا دراميًّا وحواريًّا بحق، يدعونا إلى قراءة كامو من منظور جديد وبعيون جديدة، لأنه لا يعارض النص الروائى ويرد بالكتابة على المحذوف والمسكوت عنه عمدًا فيه فحسب، ولكنه يحاور فيه أيضًا حاضر الجزائر بعد الاستقلال، وكيف تخثرت فيه أحلام التحرير القديمة. لأن العمل رحلة فى مكونات الوعى الاستعمارى الفرنسى علّه يحدق فى ماضيه القريب، والوعى التحررى الجزائرى وهو يتعامل مع إشكاليات حاضره المعقد بعد تخثر أحلام التحرير بعد نصف قرن من أوجاع الاستقلال.