واجه الأدب الجزائرى أشكالا عديدة من الاستبعاد، والتهميش، والإهمال النقدى، وهذا يعود إلى عدة أسباب، أولها يكمن فى طبيعة اللغة التى كان يكتب بها كبار المبدعين الجزائريين، فقد كانوا غير قادرين على تجاوز خندق اللغة الفرنسية، التى فرضت عليهم منذ أن وطأ الاستعمار الاستيطانى الفرنسى أرض الجزائر فى عام 1830، وعمل على محو اللغة الوطنية تمامًا، وحاول أن يعيد تشكيلها وفقًا لأغراضه الاستعمارية، فكانت اللغة الفرنسية، هى لغة المدارس والمحاكم والصحف والمجلات، وبالتالى أصبحت لغة التعبير فى كل الفنون المكتوبة مثل الشعر والقصة والرواية، أو الفنون المرئية مثل المسرح والسينما وغيرها من الفنون. ولذلك فكان القراء والنقاد والمثقفون العرب بعيدين إلى حد كبير عن هذه الفنون، ولم يتعرض أحد لها بالسلب ولا بالإيجاب على وجه الإطلاق، وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952 فى مصر، بدأ الاهتمام بحركات التحرر العربية والإفريقية، وكانت الثورة الجزائرية، باعتبارها ثورة عربية وإفريقية، على رأس اهتمامات القيادة المصرية، واعتبرها جمال عبد الناصر شخصيا، قضية مصيرية ومصرية وعربية وإفريقية فى الوقت نفسه، واعتبرها امتدادا للثورة المصرية، واحتضن قادتها فى القاهرة، وأمدهم بالسلاح الذى وفره لهم، ولذلك أعلن المجاهدون الجزائريون الكفاح المسلح فى نوفمبر عام 1953. وبدأت الثورة الجزائرية توضع على الخارطة المصرية، وشهدت الصحف والمجلات والإذاعة المصرية نشاطا محمودًا وقويا يقدّم الثورة الجزائرية، ومبدعيها، وفى أول يناير عام 1953 كتب الدكتور طه حسين مقالا نقديا لافتا عن رواية «الربوة المنسية» للكاتب الجزائرى مولود معمرى، هذه الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية، والتى تدور أحداثها فى ظل ثبات عميق من الجيل القديم، الذى يستكين لكل ما هو قائم، وكذلك فى ظل جيل جديد طموح نحو الثورة بشكل كبير. وكان هذا المقال الأول لأهم كاتب وناقد ومفكر مصرى، بمثابة جواز المرور للكاتب الشاب المولود فى 28 ديسمبر عام 1917، والذى كان يلفه التجهيل والاستبعاد العفوى من قِبل القراء والنقاد العرب، والمتعمد من قِبل الاستعمار الفرنسى، الذى لا يستحسن وجود مثل هذه الأصوات على الساحة الثقافية والإبداعية. وكان يعمل طوال الوقت على إسكات مثل هذه الأصوات بشكل مسلح، إما بتوقيفهم فى السجون والمعتقلات. وإما باستهدافهم وقتلهم، وإما بخطفهم، ولا يعلم عنهم أحد أى شىء عن مصائرهم. وفى 12 يونيو عام 1957 كتب المحرر الأدبى والفنى لجريدة «المساء»، الكاتب والصحفى أنور عبد الملك -قبل أن يترك هذا المجال ويتخصص فى شؤون علم الاجتماع والفكر الاستشراقى- مقالًا طويلًا تحت عنوان «الإرهاب لن يخيف الكتاب الجزائريين لمواجهة الاستعمار»، واستفاض المقال الطويل فى التعريف بمولود فرعون، وأخبرنا أن معمرى تعرض للخطف فى 5 أبريل 1957، ولا يعلم عنه أحد شيئا، وحاول عبد الملك أن يلقى بعض الضوء على أدب معمرى، وقد اعتبر أن روايتيه «الربوة المنسية» و«نوم الرجل العادل» من عيون الأدب الجزائرى، وكذلك الأدب العربى المكتوب بلغة أخرى. وهذه القضية شغلت الساحات النقدية والفكرية والثقافية، وهى التى تتعلق بهوية هذا الأدب، هل نعتبره أدبا جزائريا، لأنه مهموم بالقضية الجزائرية وثورتها التحررية، وتدور أحداث وقائع هذا الأدب فى الأراضى الجزائرية، أم أن هذا الأدب يمثل الأدب الفرنسى، لأنه مكتوب بلغة المستعمر، وبالتالى فاللغة هى وعاء المشاعر وطريقة التفكير وحاملة لطبيعة الشخصية الفرنسية؟ ولكن كانت رواية «الربوة المنسية» لمعمرى، تؤكد بشكل يكاد يمثل خللا فنيا الهوية الجزائرية، فبطل الرواية كلما تعرض لموقف ما، ويتعرض للسؤال، يقول إنه جزائرى، وإنه يعبر عن الهوية المفقودة والغائبة والمضطهدة والمستبعدة، وعندما يسأل أحدهم بطل الرواية: «هل كنت فى السجن؟»، فيرد عليه: «أنا فى الجزائر»، على اعتبار أن الجزائر سجن كبير، يسجن فيه الجزائريون جميعا، وعن هذه الإشكالية عبّر كتاب جزائريون كثيرون، منهم محمد ديب ومولود فرعون ومالك حداد الذى صرح بأنه مسجون فى لغته. وبعد أن تحررت الجزائر، راح اسم مولود معمرى يكبر ويطير فى معظم بقاع العالم، وفى ديسمبر عام 1966 حضر إلى القاهرة لحضور اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر الكتاب الإفريقى الآسيوى، وفى أول يناير 1967 أجرت الكاتبة الصحفية والناقدة خديجة قاسم حوارًا معه، ونوّهت بمقدمة الحوار عن روايته المهمة «الربوة المنسية» قائلة عنها: «يكشف معمرى الصراع فى قرية جبلية تقع فى منطقة تقع فى منطقة البربر بالجزائر، يعيش فيها جيلان مختلفان، القديم المتمسك بالغيبيات والقضاء والقدر، والاستسلام العاجز، والجيل الجديد الذى تعلم تعليما أوروبيا، ويتمرد على الحاضر، ثم تنشب الحرب العالمية الثانية، وتمزق كل المجتمع الجزائرى، ويسأل أحد أبطال الرواية زميله: هل أنت فى السجن؟، فيجيبه: أنا فى الجزائر، فكلا الحالين سواء». وفى الحوار يتحدث معمرى عن المشكلات التى تواجه وتعترض كتّاب آسيا وإفريقيا، ويعتبر معمرى أن المشكلة الرئيسية التى تواجه الكاتب فى بلاد مثل بلادنا، أنه ليس موظفا فى الدولة، فهو إنسان متحرر من جميع القيود، يتحرك ويصرخ ويفزع، وتحركه أحاسيسه وانفعالاته، ويعبر عن كل هذا بقلمه، وهى مشكلة لأن الكاتب يجد نفسه أحيانا فى مواجهة الدولة التى لا توفر الحرية الكافية لكى تتحقق حرية الكاتب. ظل مولود معمرى طوال حياته يناضل من أجل الحرية فى مواجهة المستعمر، وبعد زوال المستعمر راح ليواجه الرجعيين والمستبدين فى بلاده، إنها حياة مفعمة بكل معانى النضال والنبل والكفاح.